وقف النار والحل السلمي
حذام زهور عدي
في المعركة الكلامية للقوتين اللتين تتحكمان بالسياسة الدولية، واللتين ينطق باسمهما السيد دي ميستورا، كان موضوع الخلاف، وقف إطلاق النار، والتفاوض على الهدن الساعية أو اليومية، وكانت الحجة المطروحة لابد من توقف المعارك ولو جزئيًا لتلتقط الأطراف المتقاتلة الأنفاس وتجرب استثمار إمكانية السلام بينها، فقد تتوصل فيما بعد إلى الحل السياسي الممكن، والمستبعد الآن من أي مفاوضات سورية أو دولية.
وكانت النتائج دومًا مخيبة للآمال، ليس فقط لأن النظام الأسدي مع الحليف الروسي والإيراني، يخرقونها بالقصف المستمر حتى لو كانت هدنًا ساعية، ولم يعد هذا خافيًا على أحد، فهم يريدون حسمًا عسكريًا لا لبس فيه، واستسلامًا مطلقًا للثائرين والمعارضين الذين طالبوا برحيل الأسد ونظامه.
ليس السؤال الآن، هل كان بإمكان تلك الهدن، حتى لو اتُفق عليها، أن تجلب وقفًا دائمًا لإطلاق النار؟ فذلك ردّت الوقائع عليه، لكنّ السؤال: هل وقف إطلاق النار دون اتفاقٍ على حلٍ سياسي، أو أفقٍ واضح لهذا الحل كفيلٌ بتحقيق السلام والاستقرار السوري.
لنفترض أن اتفاقًا ما لوقف إطلاق النار قد تحقق بعد شياط ومياط بين الدول المعنية، روعيت فيه خطوط وقف إطلاق النار وفق الوقائع التي وصل إليها كل طرف، ودون حلٍ سياسي شامل للجمهورية العربية السورية، فماذا ستكون النتائج؟
بالتأكيد سنجد عددًا من الفصائل العسكرية ترفض مثل هذا الاتفاق، وبرهانهم أنه جرى بين دولٍ اتفقت على تقاسم الكعكة السورية دون أن يكون للسوريين أبناء البلاد، سوى واجب التوقيع قسرًا، وإلا فخرق وقف إطلاق النار جاهزٌ، وتهمة الإرهاب جاهزة، والطائرات الروسية تتابع تدريباتها في السماء السورية، وعلى الأرض مستشاروهم مع ميليشيات الولي الفقيه تتعهد بقتل السوريين، وماتزال الولايات المتحدة مشغولة بتنصيب الرئيس الجديد ذي الآفاق المجهولة سوريًا، والأمر لا يحتاج لحُجة خرق الفصائل، فطالما يملك فريق حماية الأسد القوة الهائلة، فسيبقى ماضيًا بتحقيق الهدف الذي رسمه القيصر بوتين لروسيا الجديدة، كما هي أطماع الولي الفقيه وملاليه بالوصول إلى المتوسط وتشييع سوريا المفيدة لضمان الولاء له للأبد، وستكون حدود وقف إطلاق النار هي حدود الفيدراليات القادمة، ولذا فإن الأطراف المتقاتلة ستبقى في نزاع دائم، إذ إن كلًا منها تحاول مدّ مساحة إمارتها على حساب الأخرى، وفق مصالحها المرتبطة غالبًا بالثروات الطبيعية، والتي سيقوم اقتصاد الإمارة عليها.
وستصل سوريا بحسب الرؤية السابقة إلى نتيجة مفادها: بدون حلٍ شامل وعادل لسورية الموحدة، لن يكون هناك أي استقرار، ليس فيها فقط، وإنما في منطقة الشرق الأوسط كلها.
لكن ماذا عن مناطق سيطرة الفصائل المسلحة في حال التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار؟
صحيح أن الخطة العسكرية الروسية- الأسدية تجمع ما تبقى من المقاتلين في إدلب تمهيدًا لتصفيتهم، لكن الوقائع لا تشي بأنهم قادرون تمامًا على إنهاء عسكرة الثورة، وأن احتمال ارتداد المسلحين في هذه الحال إلى التطرف وانعدام الأمن مستقبلًا على الطريقة العراقية وارد جدًا.
ليس رجمًا بالغيب، وإنما كلُ من يتابع تطور ما يجري على الأرض، يلاحظ أن رغبة توحيد تلك الفصائل تحت قيادة عسكرية واحدة تكون مدماكًا لبناء جيش وطني مستقبلي، قد تعثرت اليوم لدرجة أصبحت شبه مستحيلة، ما يعني أن شيئًا خطيرًا يبدو بالأفق في حال وقف إطلاق النار دون حلٍ عادل وحقيقي لسوريا كلها، إذ ستتحول الفصائل إلى إمارات صغيرة، يديرها أمراء حرب اعتادوا على تزعم فصائلهم وعدم التنازل عن زعاماتهم مهما كان الدافع، حتى لو كان الدفاع عن أنفسهم، وهكذا سنكون أمام مشهد سوري فريد، هو مشهد تفتيت المفتت وضياع الدولة والمجتمع.
قد يعترض أحدهم مُبديًا وجهة نظرٍ أخرى، مفادها أن الفصائل لم تتكون إلا من خلال الدعم الخارجي، وبتوقف ذلك الدعم ستذوب وتنتهي، ويعود كل فريقٍ لمهنته السابقة قبل الثورة ، تلك وجهة نظرٍ تُقارب الصحة في حال التوصل إلى اتفاقٍ شاملٍ عادل، أما في حال وقف إطلاق النار فقط، فاستمرار النزاع مع خطوط الهدنة الدائمة لا يعني بالضرورة وقف الدعم الخارجي، وعلى افتراض أن الداعمين التزموا حقًا به، فالسوق السوداء مترعة بالأسلحة بل إن بعض الفصائل بدأت تصنعه ذاتيًا، وطرق ابتزاز المال أصبحت عريضة تسع الموالين وكثيرًا من أمراء الآخرين.
إنَ القراءة الواعية لما يجري، تستبعد أي استقرار لسوريا والمنطقة إلا بحل شامل عادلٍ، يقوم على وحدة الأراضي السورية، ومحاكمة المجرمين، وإن وقفًا لإطلاق النار دون أفقٍ سياسي ليس عملية تقسيمٍ لسوريا فقط، وإنما عملية اقتتالٍ دائم وتفتيت لجزيئات الأرض السورية ومجتمعها.
وحتى يضمن ذلك الحل استقرار البلد، وإمكانية إعادة بناء الدولة السورية القائمة على مجتمع واحد متماسك، لابد أن يقوم على ثوابت هي بعد الانتهاء من ترحيل الأسد ونظامه، تتلخص في:
أولًا: أن يكون للسوريين كلمة الفصل في ذلك الاتفاق، فأهل سوريا أدرى بشعابها.
ثانيًا: وجود قوة أممية من الدول التي لم تتلوث بدماء السوريين، تُشرف على انسحاب كل مجموعة أو أفرادٍ غير سوريين، وتسمح بنزع السلاح من أي فصيل موالٍ أو معارض، وإعادة تشكيل الجيش السوري الوطني، بعد دمج من يريد من الموالين المسلحين أو الثوار به.
ثالثًا: إعادة المهجرين جميعًا دون استثناء، وإلغاء كافة قوانين النظام الأسدي المرتبطة بالإرهاب أو الثورة، والتحضير لانتخابات تشريعية، ودستور يضمن حق المواطنة للمكونات جميعًا، وتحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
رابعًا: تقديم تعهد دولي، ببرنامج إعمار شبيه ببرنامج “مارشال” لإعمار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فمثل هذا البرنامج لايضمن إعادة بناء المدن المهدمة فقط وإنما يتيح الفرص لاستيعاب المقاتلين الذين يودون العودة لوضعهم المدني، وبالتالي يضع حلًا لمعظم الفصائل المتقاتلة، بإفراغها من العنصر البشري، وإمكانية المصالحة الوطنية بينهم.
هذه أهم البنود، وبالطبع هناك أخرى تنتج عما سبق، وغالب الظن أن ورقة هيئة المفاوضات التي أقرت في لندن راعت معظمها بصيغة ما، فهل نأمل أن يتمسك من يُمثل الشعب السوري بها وأن تستطيع مؤسسات المعارضة السورية تهيئة الأجواء للتوصل لتنفيذها؟ هذا في حال اتفاق الدول الكبرى على إجبار النظام على القبول بمثل هذا الحل وإنقاذ سوريا من كوارثها، وتلك هي المشكلة المصيرية التي لن يحلها إلا السوريون فقط، والزمن كفيل بإيصالهم إلى تلك القناعة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :