بعد خمسة أعوام من القتال الذي دمر سوريا، تبدو الشرعية الدولية أشبه بحطام في مدينة حلب، فكما تتساقط الآن الأحياء الشرقية من تلك المدينة المنكوبة، تساقط مبعوثو الأمم المتحدة إلى سوريا تباعًا؛ كوفي أنان، والأخضر الإبراهيمي، وستيفان دي ميستورا الذي وضع استقالته بتصرف بان كي مون قبل أيام (رغم النفي)، وقبلهم سقط المراقبون العرب وقائدهم السوداني الفريق أول محمد أحمد مصطفى الدابي، ثم المراقبون الدوليون وقائدهم النرويجي روبرت مود.
هكذا كان من الطبيعي أن يبرز سؤال وحيد طُرح مساء الأربعاء الماضي: ماذا يمكن لتلك الجلسة الطارئة التي عقدها مجلس الأمن حول الوضع المتداعي في حلب، أن تفعل بعد هذا الفشل الطويل للشرعية الدولية وللمفاوضات السياسية التي انهارت تباعًا في جنيف؟ الجلسة عقدت بناء على طلب فرنسا وبريطانيا، وعلى خلفية قول السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة فرنسوا ديلاتر، إن فرنسا وشركاءها لا يمكنهم البقاء صامتين إزاء ما يجري في شرق حلب، وما يمكن أن يكون واحدة من أكبر المجازر بحق المدنيين منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الإحاطة التي قدمها دي ميستورا عبر الفيديو من بروكسل، اقتصرت على قوله إن لديه خطة لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدينة وإن المعارضة والنظام يوافقان عليها.
في غضون ذلك كان فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان في اتصال هاتفي هو الثالث بينهما هذا الأسبوع، وانتهى بإعلان مكتب الرئيس التركي أن الزعيمين اتفقا على تكثيف المساعي للتوصل إلى وقف للأعمال القتالية وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى المدينة. في موازاة هذا أفادت الأنباء بأن ممثلين لروسيا ولفصائل من المعارضة السورية اجتمعوا في أنقرة لبحث سبل التوصل إلى هدنة، وأن هذه الفصائل مرتبطة بالائتلاف الوطني السوري ولا تضم «جبهة فتح الشام» (النصرة سابقًا).
الإعلان عن لقاء الروس وممثلي المعارضة في أنقرة الذي تواكبه الاتصالات بين بوتين وإردوغان، أعاد إلى الأذهان الاقتراح الذي قدمه دي ميستورا في السادس من أكتوبر (تشرين الأول)، والذي يدعو إلى أن يغادر مقاتلو «النصرة» حلب، مقابل وقف النظام والروس عمليات القصف، يومها وافقت موسكو لكن المبادرة تعطّلت وبدأ الهجوم المكثف على أحياء حلب الشرقية في ظل الحديث عن قرار النظام وحلفائه حسم الوضع قبل تسلم الإدارة الأميركية الجديدة.
الحديث عن تفاهم بوتين وإردوغان على وقف النار وعن إمكان إحياء خطة دي ميستورا، جاء متوازيًا مع تقارير من بروكسل تفيد بأن المبعوث الدولي يكثّف مساعيه لفتح «ثغرة استدراك» يمكن أن تعيد الكرة إلى جنيف، على خلفية أن الاندفاعة العسكرية الناجحة في حلب ليست نهاية الطريق، فلا بد من العودة إلى المربع السياسي، وهذا أمر يدركه النظام كما تريده موسكو، التي تجد أن الوقت مناسب الآن لخروج ظافر من خلال العودة إلى جنيف وفق أجندة لافروف.
لهذا يتعين طرح السؤال: هل يمكن استنباط مخرج من التفوق العسكري للنظام وحلفائه في حلب، يحيي عملية التسوية السياسية المنهارة منذ سقوط الهدنة التي اتفق عليها جون كيري وسيرغي لافروف قبل شهرين، ويعيد البحث على قاعدة «جنيف – 1»، أي تشكيل حكومة وحدة وطنية تهيئ لانتخابات جديدة مع بقاء الرئيس بشار الأسد حتى ذلك الحين؟ السؤال قد يبدو مستغربًا في أوساط النظام وحلفائه الإيرانيين، وخصوصًا بعد الانتصارات في أحياء حلب الشرقية، لكنه ليس مستغربًا عند دي ميستورا، الذي يراهن، رغم الحديث أخيرًا عن يأسه ووضع استقالته بتصرف بان كي مون، على إمكان فتح فجوة سياسية عبر ركام حلب، والذي أعلن من بروكسل أن التطورات العسكرية الأخيرة في المدينة لن تسقط مرجعية جنيف لهندسة تسوية سياسية تضع صيغة جديدة للحكم في سوريا: «إن النصر العسكري في حلب ليس كافيًا، لأن الحل يبقى في العودة إلى الحوار لإرساء تسوية سياسية، فالحلول العسكرية ليست مستدامة».
دي ميستورا ليس وحده الذي يرى أنه من الممكن لا بل من الضروري العودة إلى خطة كيري – لافروف، أي إخراج «النصرة» من حلب مقابل وقف النار، ويبدو أن هذه العملية تشكّل بندًا محوريًا في المحادثات بين بوتين وإردوغان، وليس خافيًا أنه عندما جاء المبعوث الدولي إلى دمشق قبل في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) كان يحمل اقتراحًا تركيًا فحواه «أن لا يتم أي تغيير جذري في الإدارة في أحياء حلب الشرقية بعد إخراج (النصرة) حتى يكون لدينا حل شامل»، لكن كان من المفاجئ أن يتعرّض إلى اتهامات مباشرة من لافروف، وهو ما دفعه إلى إيداع استقالته لدى بان كي مون.
لافروف قال إن الأمم المتحدة بشخص مبعوثها دي ميستورا تقوّض منذ أكثر من ستة أشهر قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يطلب تنظيم محادثات شاملة بين الجهات السورية دون شروط مسبقة، لكن هذا الاتهام لا علاقة له بموقف دي ميستورا من القرار المذكور، بل جاء ردًا مباشرًا وغاضبًا على قول دي ميستورا في 22 الشهر الماضي أمام مجموعة من مشرّعي «الديمقراطية الاشتراكية»، إنه يشعر بقلق بالغ بشأن ما يمكن أن يحدث قبل 20 يناير (كانون الثاني) «نحن قلقون للغاية من أن يطبق الأسد بشكل وحشي وعدواني على ما بقي من شرق حلب، سيكون ذلك مأساويًا، قد يصبح فوكوفار جديدة».
مدينة فوكوفار الكرواتية أول مدينة أوروبية كبرى دمرت تمامًا منذ الحرب العالمية الثانية، على أيدي الجنود الصرب الذين ذبحوا المئات ورحّلوا 30 ألفًا من سكانها، وكانت موسكو تؤيدهم كما هو معروف، والحديث عن فوكوفار كالحديث عن غروزني الشيشانية التي سحقها بوتين عام 2000، يثير غضب موسكو!
أهم من كل هذا، لا يغالي دي ميستورا عندما يراهن على إمكان استنباط حل سياسي من دمار مدينة حلب، لأنه مهما كانت نتائج الميدان فهي تحتاج في النهاية إلى ترجمات سياسية، وخصوصًا أن سقوط حلب لا يعني نهاية الحرب، بل حلقة في سلسلة طويلة من الاستنزاف الموجع في بلد مدمر كليًا، إضافة إلى ما يترتب على هذا من متاعب اقتصادية منهكة، وخصوصًا إذا عطفناها على ما تثيره استراتيجية بوتين في العالم السني المترامي، وانخراطه في تدمير المعارضة السورية بذريعة ضرب «داعش» و«النصرة» عبر دعمه النظام وإيران.
خلاصة العرض المسهب الذي قدمه دي ميستورا أمام البرلمان الأوروبي بداية الأسبوع وعشية التحرك الفرنسي البريطاني في مجلس الأمن، أنه يراهن على بروز ثغرة في جدار النار السورية تعيد الجميع إلى جنيف، بحثًا عن قناعة واقعية توفّر مخرجًا مقبولاً على قاعدة الاقتناع بحتمية حصول تقاسم حقيقي للسلطة، لا يمكن التوصل إليه إلا عبر ضغوط أميركية روسية، وهذا ما يستلزم بالضرورة هدنة راسخة في حلب عبر إخراج «النصرة»، ريثما يبدأ الظهير الأميركي الجديد عمله!