معركة حلب ليست محطة عادية في سير العمليات العسكرية في سوريا. هي كُبرى المدن السورية، سكانياً واقتصادياً أيضاً. عندما سيطرت الفصائل المعارضة على حلب قبل ٤ سنوات، كان الحدث نقطة تحول مفصلية، إذ تأمل كثيرون أن تُشكل تجربتها الثورية نموذجاً يُحتذى وبالتالي يُهدد بتقويض النظام السوري لمصلحة البديل المقبول للداخل والخارج على حد سواء.
لأسباب متعددة، وأولها التدمير المنهجي، كانت التجربة دون آمال الكثيرين. لكن حلب، ورغم كل القصف والتدمير والقتال وصعود الإسلاميين، بقيت ترفع علم الثورة الذي انكفأ ومُنع في مناطق أخرى مثل ادلب المجاورة.
كما استضافت حلب في شطرها الشرقي الخارج عن سلطة النظام مجلساً محلياً ومؤسسات مدنية خدمية وثقافية، وشهدت محاولات لإنشاء قضاء مدني، في وقت انتشرت فيه المحاكم الشرعية كالفطر في أنحاء المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. باختصار، كانت حلب النموذج المضاد والمغاير الذي يُفترض إزالته كي تتحقق ادعاءات النظام وحججه التي تصوره ضحية في مواجهة هجمة ارهابية خارجية مدعومة إقليمياً.
والواقع أننا لو أعددنا عبر الأقمار الصناعية خريطة للدمار في أنحاء سوريا، لتبين معنا أن هناك علاقة مباشرة بين مدى الدمار من جهة، ونسبة اعتدال المعارضة، ولو كانت اسلامية الهوية، من جهة ثانية. كلما ابتعدت منطقة عن النصرة وداعش، ارتفعت نسبة التدمير والقتل فيها. وهذا لا ينفي وجود عناصر أخرى، مثل القرب من مراكز النظام ومناطق جغرافية تحظى بأولوية عنده لأسباب ديموغرافية.
يُضاف إلى ذلك أن لحلب أهمية رمزية، لم تتجاوزها السلطات المتعاقبة في كل الحقبات التاريخية للمنطقة. قبل أكثر من ألف عام، إبان عهد الدولة الحمدانية التي امتدت من الموصل إلى حلب، كانت المدينة، مقصداً لسيف الدولة نتيجة رمزيتها التي لحظها المتنبي في شعره ”كلما رحبّت بنا الروضُ قلنا: حلبٌ قصْدُنا وأنتِ السبيلُ“.
ولتمايز حلب علاقة بكونها مدينة. فيليب مانسل، أحد مؤرخي حلب، قدم شرحاً في مطلع كتابه، عن دور المدينة في تشكيل مقاومة طبيعية وتلقائية لقوتي الدين (أو المذهب) لأن ”إرتباطات الحياة اليومية قد تحمل قوة أكبر من أوامر الدول والمذاهب. فالسكان يحتاجون إلى بعضهم بعضاً، وإلا فلا يقطنون في المدينة ذاتها التي باتت هوية أساسية لكثيرين“.
بالتأكيد، لم تكن حلب واحة ليبرالية. لكنها أيضاً، وفي ظل صعود التطرف الديني، طردت تنظيم ”داعش“، ولم تتمكن جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، ولا حليفتها أحرار الشام، من السيطرة على الشطر الشرقي بشكل كامل، بل بقي التنوع في الفصائل وارتباطاتها المحلية قائمة. كان الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) ناشطاً، وكذلك الصحافيون الذين واصلوا بث مقاطع وتقارير عن معاناة المناطق المدنية وجوانب من حياتها. بالأمس مثلاً، قضى في القصف الجوي شاب سوري كان اكتسب شهرة عالمية لعمله مهرجاً يرسم ابتسامات على وجوه الأطفال رغم الحرب والدمار.
لكن ماذا بعد سقوط حلب؟
الأرجح أننا سنكون أمام مدن تحت سيطرة النظام، وأرياف تحكمها إما جبهة فتح الشام وحلفاؤها، أو تنظيم ”داعش“، أو تحت هيمنة الأكراد وما يُسمى قوات سوريا الديموقراطية. عندها، سيكون أي اتفاق روسي-أميركي كافياً من أجل عزل الفصائل الجهادية.
لكن عندما تسقط حلب بالكامل، لن تدخلها قوات حكومية فحسب، بل ميليشيات طائفية راكمت خبرات في العراق وغيره من البلدان، في إثارة النعرات ورفع منسوب التوتر والمظلومية لدى الطوائف الأخرى. هؤلاء خبراء في خلق الظروف المواتية لصناعة داعش جديدة.