حقيقة القول إن «ما بعد حلب ليس كما قبلها»!
مع تصاعد حدة القصف والمعارك الدموية، ووضوح إصرار النظام السوري وحلفائه على تحقيق حسم عسكري عاجل في مدينة حلب، ترتفع أصوات تبالغ، عن حسن نية أو عن سوء نية، في تقدير قيمة وتداعيات هذا الحسم إن تحقق، وبأنه نقلة مفصلية سوف تقلب الأوضاع السورية رأساً على عقب، ليصل بعضها إلى القول إن ما بعد حلب لن يكون كما قبلها، معتبراً المعركة هناك معركة أسطورية، سوف تخلق، بعد اكتمالها، واقعاً ومساراً جديدين، يحددان ملامح ليس خريطة سورية ومستقبلها فحسب، وإنما خريطة المنطقة ومستقبلها ككل!
والحال، إذا كان القصد بما بعد حلب، مرحلة تتعزز فيها الثقة بنجاعة الخيار العسكري لدى النظام وحلفائه، بما يمكنهم من رفع الروح المعنوية لأنصارهم وتسويغ استخدام مختلف أنواع الأسلحة وأكثرها فتكاً للاستمرار في ضرب معاقل المعارضة المسلحة في المدن الأخرى، فلنتذكر أن السلطة الحاكمة لم تتخل لحظة عن الخيار العسكري بصفته وسيلتها الوحيدة للحفاظ على موقعها، ولم تفارقها يـــومــاً الأوهام عن قدرتها بما تملكه من وسائل العنف والقهر لسحق معارضيها وتأبيد سيطرتها، حتى لو تتطلب ذلك المزيد من العنف والضحايا والدمار.
أما إذا كان القصد بما بعد حلب إسقاط العملية التفاوضية وخطة التسوية التي كانت معتمدة في جنيف بما ينسف القرارات الدولية المبنية على قيــام مرحلة انتقالية تضع البلاد على سكة المعالجة السياسية، فلتذكر أيضاً أن المسار السياسي لم يشهد ما قبل حلب أي تقدم جدي، وأن التطورات العسكرية الميدانية، تقدماً أو تراجعاً، لم تؤثر أبداً في موقف النظام الثابت والرافض أي حل سياسي إن كــان يفضي إلى إحداث تبدل نوعي في بنية الحكم وتركيبته الأمنية، ليس فقط لأنه من نوع الأنظمة العاجزة بنيوياً عن تقديم التنازلات، وإنما لأنه يتحسب ويخشى من أن يفضي الانفتاح والمشاركة السياسيان إلى كشف ما يعانيه من ضعف وهشاشة وفساد، وتشجيع محاسبته على ما حل بالبلاد.
ثم ما الجديد إذا كان المقصود بما بعد حلب، هو اللعب بورقة استعادة السيطرة على أكبر مدينة سورية، لتغيير الموقف الدولي من النظام ومنحه غطاء أممياً للاستمرار في الحكم؟! ألم تتمسك قيادات المجتمع الدولي ضمناً بالنظام السوري طيلة فترة الصراع الطويلة حتى لو طالب بعضها إعلامياً برحيله؟ أولم يفض موقفها السلبي والمتردد من الفظائع التي تحصل، إلى إطلاق أيادي موسكو وإيران كي تقررا مصير البلاد؟! ثم ما الحاجة لتلك الورقة اليوم وقد تصدرت المشهد السياسي الغربي حكومات يقودها دونالد ترامب وأمثاله، تميل لمهادنة النظام وتقدير دوره في مواجهة «داعش»، يحدوها تغييب حقيقة تضع المسؤولية الأولى على سياسات السلطة السورية وممارساتها، في نمو الجماعات الجهادية المتطرفة واستمرارها؟!
وإذا كان المقصود بما بعد حلب هو الأمل بعودة الأمور إلى ما كانت عليه، وتمكين السلطة من استعادة سيطرتها وهيبتها وشرعيتها الوطنية، فأنّى يحصل ذلك، بعد الضعف الشديد الذي خلفته سنوات الحرب على دعائم النظام ومرتكزاته السياسية والاقتصادية، ثم انحسار دوره في القرار الوطني نتيجة استجرار داعمين خارجيين صارت لهم، وفقاً لأوزانهم العسكرية الكبيرة، الكلمة العليا في رسم مستقبل البلاد.
بديهي أن يتمكن طرف «منتصر» من فرض سلطته وسطوته، لفترة قصيرة، على شعب مهزوم ومنكوب، لكنه يبقى عاجزاً عن الاستمرار والاستقرار من دون العمل على ضمان رضا غالبية قوى المجتمع وقبولها، وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه بعد ما ارتكبه، وبعد هذا الخراب والدمار والتردي الاقتصادي، وبعد الشروخ العميقة التي حدثت في المجتمع، والأهم ما دام ثمة إصرار لدى النظام وحلفائه على إنكار أسباب تأجج الصراع السوري ودوافعه، وتالياً استهتارهم بحقيقة تقول أن خلاص البلاد مما هي فيه لن يؤتي أكله دون حل سياسي يرضي الناس ويلتزم بقواعد الديموقراطية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان.
والحال، من الخطأ التقليل مما يسمى انتصار النظام وحلفائه في مدينة حلب. فقد أحدث ذلك، بلا شك، تبدلاً مهماً في توازنات القوى، وأعطى دفعة قوية لمنطق العنف والغلبة، وشحن معنوياً أولئك الذين يخوضون الصراع كصراع وجود غرضه تدمير الآخر وإفناؤه، واضعاً المعارضة السورية وقوى التغيير أمام وضع سياسي وميداني أكثر صعوبة وتعقيداً، لكن في المقابل لن تكون الحالة السورية فيما بعد حلب إلا كما كانت قبلها، ضاجة بصراع دموي مقيت، وإن اتخذ أشكالاً عسكرية أضيق وأقل حدة، ومفتوحة على المجهول.
وأسوأ ما فيه، احتمال انفلات العنف والتنكيل على غير هدى، واستدراج المزيد من التدخلات الخارجية، وما يخلفه ذلك من أضرار فادحة على الوضعين الاقتصادي والإنساني، وتهتك وشروخ في البنية الاجتماعية الوطنية، ربطاً باحتمال أن تحدث، التداعيات المأسوية لكارثة حلب ومصالح أطراف تتحسب من الانتصار التام والنهائي للنظام وحلفائه، تبدلاً في الموقفين الدولي والإقليمي يمنع «المنتصرين» من الذهاب أبعد من حلب وتكرار العنف والتدمير في مناطق أخرى، كإدلب ودرعا ودير الزور وأرياف حمص وحماة ودمشق.
والأهم أن زمن ما بعد حلب لن يلبث أن يؤكد من جديد إلزامية المعالجة السياسية، واستحالة الحسم العسكري لأي طرف مهما تغنى بانتصاراته، وأيضاً إخفاق تعويل المعارضة على دور داعم وحاسم للخارج الدولي والإقليمي، ثم شدة الأذى الذي خلفه الركون الى تنامي الجماعات الاسلاموية الجهادية على حساب قوى التغيير الوطنية، وكيف أثر ذلك في تأليب العالم ضد الثورة السورية، وفي تدمير الدور الديموقراطي الريادي للمكون العربي السني، ما يسقط مقولة درج بعض المعارضين على تداولها، بأن كل من يقاتل النظام هو مفيد للثورة، ويسقط تالياً المراهنة على نجاح التغيير السياسي المرتبط بالأجندات الدينية، في مجتمع تعددي ومتنوع، كالمجتمع السوري.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :