دعاء بيطار
لكل انتظار في الحياة ضيق في الصدر ونزق من طول دقائقه وتلمس لنهايته، إلا الانتظار الذي تشعر معه بارتقاء روحك في كل لحظة من لحظاته لتصافح النور الموجود في كل ذرات الكون، ثم تسير معه في حركة دائبة وتحيا معه عقلًا وروحا وجسدًا، إنها اللحظات التي نقضيها مع كلام الله والذي سيَعي كل من يسعى إلى حفظه معنى انتظار الوصول إلى تلك الغاية ولذة هذه التجربة الفريدة في أدق تفاصيلها.
تجربتي مع القرآن ابتدأت منذ أن كنت طفلة لا تعي تلك المعاني التي تحفظها بالشكل الذي يغوص فيه الكبار والمفسرون، لكنه كان يسيرًا على فهمي أجد في حفظه تيسيرًا عجيبًا وفي السير نحو داره (دار السلام) لأسمِّع كل يوم وردي محبة وتعلقًا، على الرغم من حرارة الجو والتعب المترافق مع الدوامين الصباحي في المدرسة والمسائي في الدار، لكن الوقت كان مباركًا بحيث يكفيني لإنهاء جميع فروضي المدرسية، وتناول وجبة الغداء، مع إنهاء مقدار الحفظ والمراجعة المحددة لي.
كان الغياب عن تلك الدار يشعرني بالفوضى والضيق بشكل فظيع وينتزع البركة والراحة النفسية من يومي كله، فكنت أحاول جهدي ألا أتغيب عنها إلا لعذر قاهر، وكانت معلمتي التي لا أنسى لطفها وابتسامتها الدائمة تشجعني باستمرار على إنهاء ما ابتدأته من مشروع مبارك.
تنقلت في هذه المدرسة بكافة فصولها الخمس لأنها عاصرت كافة مراحلي الحياتية منذ الطفولة وإلى الشباب، وبالتالي تعاملت مع كل المعلمات فيها على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم ولهجاتهم المصرية والسودانية والجزائرية والسورية.
بصراحة لا يمكن لقلبي أن ينسى تلك الوجوه التي أحببتها بصدق، ورافقني لطف تعاملهم وأخلاقهم خلال مشواري الذي استمر لثمان سنوات من عمري أحببتهم من كل قلبي لأنهم علموني جلال وجمال التمسك بكتاب الله، وكيف لحفظه أن يزيد الإنسان رقيًا في تعاملاته وأخلاقه مع الناس، لا أنسى رفقة جمعني معهم القرآن وأنى لهذا الصدق في المحبة أن ينسى، أشتاق إليهم بل أشتاق إلى جدران تلك الشقة التي تنقلت في كل غرفها، والتي ضمت أعظم وأجل ذكريات حياتي، وأي جلال أعظم من أنها حوت أصوات التاليات لكلامه.
في كل يوم كنت أنتظر يوم ختمه، ولكن ليس بفارغ الصبر كما في كل الأمور التي ننتظرها ونكره فيها الانتظار، بل كان في انتظار تلك اللحظة والسعي للحصول عليها لذة تعقبها لذات وراحة للبال تعدل كنوز الدنيا بأسرها، وحين حانت اللحظة لم تكن متوقعة للغرابة، فقد كانت مزيجًا من الرهبة والرغبة رهبة من أن أحمل هذا الكلام الثقيل بمعانيه الإلهية وأي كلام أعظم وأثقل من كلام الله ورغبة في تحقيق حلمي أن أنال ذلك الشرف، إلى أن وصلت إلى آية التمام في سورة النساء “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا”. رفعت رأسي لأجد معلمتي بوجهها الأحمر ودموعها بل حتى زملائي في الحلقة وكأن على رؤوسهن الطير فعليًا، ومنهن من بكين، ساعتها توقفت عن القراءة وأنا أتساءل عن السر، لأسمع صوت معلمتي: “مبارك يا دعاء لقد أنهيت حفظ القرآن الكريم”.
وهنا أذكر أنني صمت لفترة طويلة وأنا لا أصدق ما قالت إلى أن أعادت علي عدة مرات نفس الجملة وهي تضحك وتبكي في وقت واحد.
مر شريط تلك السنوات من أمامي بحيث لم يجعلني أبدي أي ردة فعل، فقلبي يرفرف فرحًا ولساني يعجز عن قول كلمة، دموعي توقفت في محجرها، وشعرت ببرودة في يدي، وقشعريرة كالكهرباء سرت في كل خلية من جسدي، سارع من حولي بالمباركة لي ومصافحتي، فمنهن من تقدم نحوي وقبلن رأسي على الرغم من كبر سنهن، ولا أنسى صدى دعواتهم لي، بل لا أنسى أنه في قمة ارتباكي أخرج بعضهن الحلوى وبدأن يضيفنني ويضيف بعضهن بعضًا فرحًا بهذه المناسبة، وأنا أنظر إليهن في دوامة من الأفكار المتلاحقة والذكريات المتعاقبة لي معهم ومع هذا المكان بل مع القرآن.
كيف لي أن أنسى يوما كهذا بل حلمًا تحقق، بل فضلًا وكرمًا منَّ الله به علي، صرت أنظر طويلًا في معلمتي ولساني يعجز عن شكرها، فقد تحملت كثرة تغيبي، تخيلت وقتها يوم القيامة وتاج الوقار الذي سألبسه والدي، تخيلت الحمل الثقيل الذي سأتحمله بمجرد أن أصبح القرآن في صدري، تذكرت أنه نور للإنسان في قبره، أردت وقتها أن أقبل يدي أمي فقد كان لها أكبر الأثر في تشجيعي على حفظه فهي من أخذت بيدي وأدخلتني في هذه الدار منذ أن كنت طفلة.
أردت أن أخبر أخي الحبيب أحمد (رحمه الله) الذي كان يسمعه لي عندما يأتي إلينا، ودائمًا ما يسألني في اتصالاته إلى أين وصلت في حفظه، أردت أن أقول لكل من ابتدأ هذا المشروع أنك في نعمة عظيمة فإياك والتخلي عنها لاعتقادك أن الوقت لا يكفي للمزيد من المهمات، فلن يضيع عند الله جهدك هذا ولن تجد لحظات انتظار في الدنيا ألذ من انتظار وتحقيق هذا الحلم فهو وثيقة استودعها الله في صدرك وأعظم جواز سفر إلى الجنة فيما لو قبله الله تعالى منك.
وختامًا لم أجد أعظم من نعمة الله على الإنسان في أن يجعله يردد كلامه ويحفظه ولم أجد خطيئة تعدل نسيانه أو تناسيه في تعاملات الحياة فمع كل صعوبة أعجوبة ومع كل لحظة معه ومضات من نور فهي أكثر أنواع الانتظار جمالًا وجلالًا.