إبراهيم العلوش
عندما برز بشار الأسد كمخلِّص لسوريا عبر الجمعية المعلوماتية، أجبر الوزارات على نشر مواقع على الإنترنت تتحدث عن إنجازاتها وأعمالها، فانتشرت الأرقام الفلكية ونسب الإنجاز الخيالية، حتى أن وزارة الخارجية اليابانية، حسب أقوال بعض الظرفاء، أصدرت تحذيرًا بأن يابان جديدة ظهرت فجأة في الشرق الأوسط!
أمين الفرقة الحزبية لبنة التلفيق الأساسية
لم يكن التلفيق جديدًا علينا نحن السوريين، ولكنه جديد على الآخرين الذين لم يتعاملوا مع سوريا كشعب وكبلد محكوم بالتلفيق وبالأوهام. فأمين الفرقة الحزبية، الذي يعتبر اللبنة الأساسية في تعميم التلفيق قبل عصر الفضائيات والإنترنت، هو بوق التعميم لإنجازات القائد- الخالد، التي وصلت إلى فبركة التاريخ واعتبار سوريا كلها مجرد انجاز من إنجازات الحركة التصحيحية التي قادها القائد- المعجزة.
وكل الأخبار التي يسمعها الناس في الإذاعات الأجنبية والعربية، كما يقول أمين الفرقة الحزبية، هي مجرد مؤامرات على الأمة العربية، وتعيق تحقيق مسيرة الوحدة العربية، وبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد.
أمين الفرقة هذا يكون عادة شابًا جديدًا، وَعدوه بمنصب ويختبرون وفاءه للأب- القائد، وللأجهزة الأمنية، لينتقل إلى المناصب العليا بأقرب وقت، لذلك تجد حماسه متجددًا، ويكاد أن يقتلع عيون مستمعيه بأصابعه الممتدة إليهم باتهام وشيك.
ولم يكن هذا المخلوق المشوه إنجازًا بعثيًا صرفًا، فهو إنجاز استقى البعث شخصيته من بعض شخصيات شيوخ الجوامع الذين يكيلون المديح المجاني لمن يدفع أكثر، فقد وصل الأمر ببعض الشيوخ بالدعاء لبعض الشركات والدعوة لشراء منتجاتها من على المنابر.
واستفاد البعثيون في بناء هذا الوطواط أيضًا من بعض شخصيات الخلايا السرية للأحزاب التقدمية، إذ كانت بعضها تلفّق كل خبر وتعيد تصنيعه على هواها وعلى هوى نظرياتها القومية أو الديالكتيكية التي تشوه أعداءها أو المنشقين عنها وتطمسهم في الوحل، وترفع مؤيديها إلى السماء ولو كانوا معدومي المواهب.
وبعد اندلاع الثورة فإن أمين الفرقة الحزبية لم تجر عليه أي تعديلات لدى شبيحة النظام، بل عممت مواصفاته على الجميع كامتياز لهم من القيادة، وبناء على تلفيقاته، حُلل لهم تعفيش ونهب البيوت بلا إبراز أي مبرر… ووصل الأمر، حسب مواقع الشبيحة، إلى نهب شقق المؤيدين والشبيحة أنفسهم، خاصة إذا كان الشبيح غائبًا عن مسروقاته وعن بيوته المنهوبة، أو قد قُتِل في إحدى المعارك، أو على أحد حواجز الإذلال.
ثقافيًا.. موهوبون بلا مواهب
على المستوى الثقافي عمل هذا التلفيق عمله، فألّه حنا مينا الكاتب التقدمي الملتزم بتوجيهات الأمين العام للحزب الشيوعي خالد بكداش.. إذ كلما دق الكوز بالجرة تطالب جماهير الأحزاب التقدمية بترشيح حنا مينا إلى جائزة نوبل (رغم أنها جائزة إمبريالية)، معتبرين زكريا تامر ومحمد الماغوط مجرّد صعلوكين متمردين على مسيرة التقدم والاشتراكية، وعبد السلام العجيلي مجرد كاتب رجعي وإقطاعي لا يستحق الاطلاع، في حين انتهى حنا مينا إلى مجرد كاتب مداح ومثير للانتقام وخاصة عندما ألقى كلمته المشهورة بعد أحداث حماة، وقال إنه يكره كل المدن التي يبدأ أسمها بحرف الحاء، في تصعيد عنصري وطائفي يبدو أنه لا يتناقض مع ضميره.
وعلى المستوى النقدي فقد صدرت قوائم سوداء ضد الكثير من الكتّاب السوريين لعدم التزامهم بمسيرة التقدم والاشتراكية، وتكللت تلك الجهود بصدور كتاب نقدي بهذا الصدد (الأدب والأيدلوجيا) الذي ألفه نبيل سليمان وبوعلي ياسين، وإن كانا قد اعتذرا عن خطئهم لاحقًا.
وفي سؤال لأحد الملمعين لعديمي المواهب، عن صاحبه الشاعر الذي يكتب الشعر الإباحي بإفراط، ردّ صاحبنا بغضب وبتأنيب، كيف تنظرون إلى تلك الكتابة بشهوانية، فهذا الجنس هو عملية اغتصاب، والفتاة في القصيدة هي رمز لفلسطين التي تخضع للاغتصاب الإمبريالي.
وهكذا بدأت عمليات تلميع عديمي المواهب والمهووسين بالشهرة، بمقالات مدبلجة على هوى مسؤولي الأقسام الثقافية في الصحف التي تسيّرها أجهزة المخابرات التي صادرت كل المديح الإيجابي وفي كافة قطاعات المجتمع وفي كل أوجه الحياة، لينصب أخيرًا في شخص القائد- الخالد الذي حصد كل الألقاب: فهو المعلم الأول، والمهندس الأول، والطبيب الأول، والفلاح الأول، والعامل الأول، والجندي الأول… وبالتالي فهو من قاد البلاد إلى أشنع مستويات الفشل السياسي والحرفي والمهني والاقتصادي، ناهيك عن أن الجندي الأول ومرؤوسيه وصلوا إلى تدمير البلاد وتسليمها للمحتلين الإيرانيين والروس بلا وجع قلب.
تلفيق آية قرآنية
الجديد في الأمر هو بروز داعش ومشتقاتها الذين نهبوا البلاد واعتبروها مجرد غنائم يتم التكبير عليها ومصادرتها، ومن بين ما نهبوا شخصية أمين الفرقة الحزبية الذي عملت المخابرات سنين طويلة على تصميمه وتجويد أدائه.
فلقد تميزت داعش بقدرتها على التجنيد، إذ أنها تهدد كل الناس وتعتبرهم مرتدين أو كفار إلا من بايعها، فمهما كانت الجرائم التي اقترفها، فهي مغفورة له، ولا يُسأل عنها أبدًا ولا خوف عليه من حسبتها ولا من محاكمها الشرعية التي تحترف الذبح والتفنن بالقتل. وهكذا ظهر أمين الفرقة الحزبية على شكل (شرعي) يلقي الخطب العصماء ويعد بالجنة ويهدد بالنار بعدما كان يعد بالمناصب ويهدد بالمخابرات.
ولم يقبل أحد الشرعيين بمصادرة أثاث إحدى الشقق إلا بموجب سبب شرعي وكان يردد ذلك بصوت عال، وهو يجول بين الصالون والمطبخ وغرف النوم ويفتش في خصوصيات العائلة الفارة من شر النظام ومن شره، وكان رجاله ينوسون معه في انتظار لحظة القرار… وبعد نصف ساعة عثر الشرعي على زجاجة ماء في البراد تشبه زجاجة عرق الريان التي كان مولعًا به أثناء عمله كأمين فرقة حزبية أو كعميل لأحد فروع الأمن، صاح بملء صوته: لقد وجدت العذر الشرعي، هؤلاء الناس أصحاب الشقة كانوا يعاقرون الخمرة حتى يمارسوا الموبقات بعدها، فمالهم حلال عليكم، وخلال نصف ساعة تقاسم أنصاره الموجودات وتناثر أثاث الشقة.. البراد في بيت والغسالة في دكان والكمبيوتر في طبون سيارة.
وتطور الأمر لدى أحد الشرعيين (المحيسني) بتلفيق آية قرآنية، حيث ادعى أنها أوحيت لأحد طلاب العلم، وهذا مالم يجرؤ عليه أحد من قبل، لا من اليسار، ولا من اليمين، ولا حتى من الملحدين، مثلما تجرأ عليه هذا الشرعي الفار من بلده ليمارس التلفيق والعبث في سوريا.
عقلية التلفيق والمداورة وتزوير الحقائق هيمنت على سوريا طوال نصف قرن، وانتشرت بقوة المخابرات لدى البعثيين، وبقوة التخوين عند بعض الشيوعيين والقوميين، وبقوة مصادرة الحق الإلهي والوكالة الحصرية عند تابعي بعض التشكيلات الدينية.
التلفيق هو الأداة المفضلة لدى معظم تشكيلاتنا السياسية والثقافية الموبوءة بالاستبداد، وهذا ما عرقل انتصار ثورة الحرية التي سالت دماء الشهداء من أجلها، وجعل جرذان الفرق الحزبية أداة لمزيد من التدمير ومن التدخل الأجنبي الذي يهدم سوريا فوق كل سكانها.