رعي الإبل فوق السطوح

  • 2016/11/19
  • 1:00 م
أحمد عمر

أحمد عمر

أحمد عمر – المدن

جلسنا أنا وزميلتي الأفغانية إقبال وجهاً لوجه أمام كتيبة الفحص، السيدة أم لهب الهامبورغية، أما الفاحصة الثانية فلم ألتق بها من قبل.

كان حلقي جافاً، سببه ذات اللهب. طلبت مني تقديم نفسي فحاولت أن أتظارف فقلت: السيدات أولاً، فعبست، ووجهها كله تجاعيد، وقالت: أنت الأول، هذا ليس وقت اللباقة، فغصصت وقمصت بي الناقة، وازدادت صحراء المنفى جفافاً ،وأشرفت على الموت عطشاً، قدّمت نفسي باختصار شديد لكتيبة أم لهب، نطقت اسمي فقط، فقالت لي: نوخ، يعني : وبعد؟
فأنخت بعيري ، وتأوهت: “آوخ” .. يا ويلاه يا ويلاه يا ظالم ويلاه
الواجب الأدبي أن أقدّم معلومات: مهنتي وهوياتي وموطني.. موطني؛ الضلال والنكال في رُباك في رباك..
قلت :خلاص..
ودوَّنت لي علامة لا تسرُّ الصديق، وانتقلت إلى إقبال فانطلقت مثل البلبل تغرِّد فقمعتها بشدة، وطلبتْ منها أن تتكلم بهدوء، فانقطعت المسكينة وسكتت، واصفَّر لونها، وقمصت بها الناقة، وحاولت أن أشجعها من تحت الطاولة بقدمي فعملت “فاولا” وضربت ساق أم لهب، وكانت قد عملت عملية جراحية في ركبتها فازداد الصحراء عطشاً وقمصت بي ناقتي ونلت من عينيها بطاقة صفراء…
سألتني زميلتها المعلمة الفاحصة اللطيفة وهي تعرض صورة امرأة مع كلب ابن كلب، وكانت الشمطاء تسجل العلامات: ما رأيك بتربية الحيوانات المنزلية؟
هذا سؤالي مخابراتي، القصد منه قياس الاندماج ومتانة الاعتقاد الألماني، هذا سؤال ألماني داعشي، وكنت أعرف جوابه لكن بالعربية وليس بالألمانية، الحقيقة كان في بيتنا بقرة، وكبش وثلاث هررة، وأنا صغير، كنت أحب لو أربى ناقة في بيتي حتى أزوجها من بعيري العاشق الوحيد المهجور.
سألت: لمَ تحبُّ البعير؟
هززّت رأسي، كيف أشرح لها هذا الحب، ركبت بعيرا لجدي، وكان بعيره يحبُّ التدخين، يلفُّ له جدي لفافة مدكوكة، غليظة، ويلف لنفسه ويتنادمان بالأشعار، وأنه ذكرني بمرجوحة نمت فيها يوماً، و بقول البحتري: إِذا سِرتُ عَنهُم لَيلَةً أَوتَلِيَّها، عَرَفتُ اغتِرابي في حَنينِ جِمالي. كيف أوضح لها إنها كائنات يضرب بها المثل في الحنين، كيف أشرح لها سبب اختيار الله أن تكون معجزة قوم صالح ناقة! كيف أشرح لها أننا كنا نربي النوق فوق السطح مثل الحمام!
وقلت مستأنفا سؤالها: رائع..
سألت: ما الرائع؟ هل كان منزلكم واسعاً؟ احكِ لنا ما الفائدة من تربية النوق في المنزل العربي؟
قلت ضاحكاً مقيداً بكلمة وحيدة أرسف في أغلالها الحديدية مثل نحلة علقت في دبق رحيق وردة الكأس: لأنها رائعة
لجمت أم لهب غضبها: يعني ما التعليل؟
قلت التعليل: جيد.. ممتاز.. الحمير رائعة.. البغال رائعة.. الحيتان رائعة، القرود رائعة، تربية الحيوانات رائعة.. الزرافة…
أدركتا أني أهرب من الجواب، وأني سقطت في امتحان اللغة والاندماج، وانتقلتا إلى إقبال فعرضتا عليها صورة سيدة وكلب.
قالت إقبال مفتيةً: تربية الكلاب حرام في الإسلام..
الغبية لم تحسن الجواب مع أنها تعيش هنا منذ خمس عشرة سنة، هذا كفر.. سيحولونها إلى صابون، ربما إلى سماد آزوتي
سألتها أم لهب: هل الكلاب اللطيفة الوفيّة حرام في الإسلام؟
قالت: الملائكة لا تدخل بيوتاً فيها كلاب، الإسلام يفضّل تربية الهررة في المنزل.
كان رأيها يحتاج إلى شرح علمي طويل وفقهي أيضا، وليس صحيحاً أنه محرّم فهو مكروه، أحفظ أرقاما مهولة عن القاتل رقم ستة في العالم وهو: الكلب، داء الكلب والسعار قتل الناس بالملايين، دونالد ترامب مصاب بداء الكلب، والبغدادي أيضا، لكني أعجم لا أعرف من اللغة الألمانية سوى الابتسام، والابتسام لا يغني عن كأس الموت الزؤام.
نظرت المدرستان إلى إقبال وكأنها زنديقة تهرطق، أو تريد القيام بعملية إرهابية في مزاج ألمانيا الاتحادية الفكري. إنها تريد إشعال نار الفتنة بين الملائكة والكلاب! الكلاب عند الألمان ملائكة تنبح .
وكانت إقبال تتكلم ببطء لكن بعد إيش.
جاء دور الفقرة الثانية من الاختبار، فأبرزت لي أم لهب من ورق كوتشينة الامتحان صورة رجل يحمل عروساً أمام باب منزل، سأصف هذه الصورة، والأفضل هو بناء حكاية من الصورة، الغرض من عرض الصورة هو وزن قدرة الطالب على الوصف و امتحان ثراء الكلمات عنده، الصورة طرنيب بلغة ورق الشدّة، طرنبتني الحيزبون، فتذوقت رشفة من كأس الموت الزؤام: هذا رجل يحمل صديقته؟
وكان من الصواب أن أقول: إنه عريس يحمل عروسه، لكني نافقت، فالأولى في ألمانيا أن يحمل المرء صديقته لا زوجته، هكذا خيّل لي، نزعت إلى حسبان الزوجة صديقة، لكن هذا يحتاج إلى شرح وتعليل.
قلت الجملة من غير علامات التنكير والتعريف لعليَّ قلت خطأً بالجرمانية: هذا رجل يخلع صديقته العروس؟
قالت أم لهب وهي غاضبة: وبعد؟ بعد “الخلع” إلى أن سيأخذها؟
قلت: استغفر الله ..سيخلعها خلعاً إن شاء الله، دحماً دحماً إلى التراقي والأعناق، سيجعل حنينها يبلغ قبرص، ما شأنك أنت، الخلع مباح حتى في شوارع ألمانيا.
قالت: ما هو الشي إلى الركب والأعناق،هي مصارعة؟
قلت: الحبُّ.. نعم الحبُّ . الحب حربٌ يا مولاتي.
انتهت فقرة الوصف وقضى العريس الوطر، وجاءت فقرة الحفلة، مطلوب مني وزميلتي أن نتحاور، الموضوع: حان عيد ميلاد صديقتنا سابرينا وسنقيم حفلة ونهديها هدية.
بادرتُ إلى السلام على إقبال وكأني ألتقي بها بعد فراق ولوعة، أخبرتني أنه موعد ميلاد صديقتنا المتخيلة السيدة سابرينا، فقلت لها مندهشاً: إن أحداً لم يخبرني! وهذا خطأ، ثم اقترحت أن نهديها شيئاً، ويجب أن نتجادل طويلاً حتى نبرز قدراتنا اللغوية في الحوار، كأن أقول:
إقبال: سنهديها عقداً؟
فتقول :إنَّ العقد غال.
فأقول : الأفضل أن نهديها كيس سكر أو رز
فتقول: ما خطبك أنت مجنون؟ هل تظنُّ نفسك محاصراً في جمهورية من جمهوريات الربيع العربي؟
فأقول: سنهديها سيارة من السوق المستعمل من عند واحد لبناني معرفة، يعمل في تجارة الخردة في مدينة فرانكفورت
فتقول: أي سيارة يا رجل؟ السيارة غالية، سنهديها ثريا.
فأقول: أي ثريا يا هانم؟ السيارات المستعملة رخيصة، لنهدها دراجة؟
فتقول: الدراجة غالية؟
فأقول: من سوق الجمعة، من سوق الحرامية ،حسنا لا تزعلي، فلنهدها سواراً، لا أحب القيود في معصميها، فلنهدها كتاباً؟ فتقول: أي كتاب؟ فسابرينا لا تحبُّ القراءة وإنما تحب السينما
فأقول: فلنشترِ لها بطاقة سينما، فلتذهب سابرينا إلى الجحيم، فلتعد إلى ديارها.. ما رأيك أن تخطبيها لي، سأنكحها.
فتقول إقبال: سنشتري لها كتاباً، فوافقت على الفور، وقلت: على بركة الله، ومددت يدي وصافحتها وقرأنا الفاتحة، وأنهيت الحوار، ودخلت بها، وثار النقع في الخميسين والسبعة الشهب، وبنيت بها عمارة من ألف طابق وطابق، بنيت بها ناطحة سحاب،قارنة كواكب، بنيت بها قواعد المجد وحدي.. البلاغة عند العرب الإيجاز ، وخيُّر البر عاجله، وخير جليس في النازحين كتاب كما يقول أبو الطيب شيللر.
دسَّت إقبال السمَّ في الحوار وأفسدت علي صباحيّة عرسي من سابرينا: ولكن أي كتاب؟ رواية أم تاريخ أم جغرافيا؟
قلت: أي كتاب والسلام؟ ورفستها من تحت فأصبت الهدف، وعدت إلى عروسي سابرينا، وأغلقت الباب، وأسدلت الستائر.
دقت لي أم لهب الباب: والحفلة، ماذا ستشربون، ماذا ستأكلون، كيف ستلتقون، بأي وسيلة نقل ستذهبون إلى ديار سابرينا، وأين؟
وقعت إقبال في خطأ آخر ما كان يجب أن تقع فيه، فليس لأقبال حذر السوري، البشتون صريحون، نحن كنا كذلك، لكننا تحولنا إلى كائنات سرِّية تتكلم بالإشارة، أنا لا أعرف اللغة لكني أجيد المشي على الحبال مثل بهلوانات السيرك:
قالت: إنها ستحضر المشروبات لكن الخمر حرام.
غصَّت المدرستان الفاحصتان وهما تسمعان وافدة تسبُّ الخمر وهو دم المسيح كما تعتقدان، إنها لا تعرف أن الخمرة تودي سنويا ب 74 ألفا من القرابين الألمان، على جبهة الكاس والطاس المقدسة، شتمت الكلب وهي الأن تشتم الخمر المقدسة، لقد صبأت… ستقيم ألمانيا عليها الحد.
كنت أظن أن إقبال أكثر فهما للحضارة الألمانية: سيدتي سنحضر مشروبات ناعمة ومشروبات خشنة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
قالت إقبال: ولكن حمل المشروبات المنكرة حرام فمن سيحملها؟ هذه المرأة تريد تحويلي إلى صابون أو إلى سماد. . أقسم بالله كأنها عائشة في قندهار!
خرجنا من الامتحان مثخنين بالجراح، في ما بعد لم أعرف نتيجة إقبال، طلبت منها هاتفها حتى أتصل بها لمعرفة نتيجة فحصها لاحقاً، فالنتائج ترسل بالبريد، و الإدارة توارى عثرات الكرام أمثالي من جرس الفضيحة بدارة جلجل، وليس كما في بلادنا حيث تعرض السوءات على الملأ، اعتذرت و أخبرتني أنّ زوجها يغار عليها، ورقمها محجب ومبرقع ومنقب ومقام عليه الحد، وهي ابنة أمير أفغاني، إقبال سافرة ولا تستر رأسها لكن الأفغان مسلمون متشددون، الرقم الهاتفي عورة، الأغلب أنها نجحت ونجت من التحول إلى صابون سائل.
انتهى فحص العورة العقلية، ولم أصدق. خرجت منه مكللا بالعار، لكني كنت سعيداً جداً بالخلاص من عقابيل تلك المحنة، والعودة إلى بعيري؛ الذي يحبُ التدخين اللف بالتبغ الحرِّ.. و رجعت إلى عروسي سابرينا لأواصل البناء بها طوابق ومدائن اندثرت تحت الرياح وأغرقها الطوفان.

مقالات متعلقة

صحافة عربية

المزيد من صحافة عربية