“خذوا مثلاً من إسرائيل، حين يكون المقصود محاربة الإرهاب، فإنها لا تتراجع أبداً، دائماً تحارب حتى النهاية، وهكذا تحافظ على البقاء. لا يوجد بديل آخر. علينا المحاربة. إذا واصلنا التراجع سنخسر دائماً”.
الكلام السابق هو للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الحليف الأساسي لمحور الممانعة اليوم. وهو الكلام الذي مرّ سريعاً في التحليلات ونشرات الأخبار، من دون أن يثير الانتباه بما يكفي لدلائله عربياً، وهو فعلاً لا يثير الانتباه كثيراً، حين يُقرأ روسياً، إذ لطالما كان بوتين حليفاً رئيسياً للكيان الصهيوني. إلا أنّ قراءة الكلام عربياً، من ناحية محور الممانعة من جهة، ومن ناحية العقل العربي وطريقة التفكير بما يحدث حولنا من جهة ثانية، تكشف الكثير عما لا يقال ولا يفكّر به، عن المسكوت عنه في ثقافةٍ لا تزال تسكن في مفازاتها المفارقة للواقع.
الممانعة بأكملها اليوم (إيران، النظام السوري، حزب الله، الحوثيون، باعتبارهم يرفعون يافطة محاربة إسرائيل أيضاً)، وتنظيمات فلسطينية وعراقية، تقف اليوم في الخندق نفسه إلى جانب بوتين في محاربة “الإرهاب” في سورية، وفق الطريقة الروسية التي تعتمد المنهج الإسرائيلي وتشيد به، وهو ما عبّر عنه بوتين بالقول: “أنا أسمع دائما حلب، حلب، حلب، ما هي المشكلة هنا؟ هل يمكننا ترك هذا التنظيم الإرهابي على حاله، أم يجب سحقه وإخراجه من خلال بذل جهود لتقليص عدد المدنيين المصابين؟”، الأمر الذي يعني، وحرفياً، أنّ محور الممانعة يطبّق استراتيجية إسرائيليةً في سورية لمكافحة الإرهاب، وإذا أضفنا إلى قتل المدنيين، واتهام الثورة والشعب السوري كله بالإرهاب، وتعميم سياسة الخوف والطائفية… إذا أضفنا إلى هذا التهجير الديموغرافي الممنهج الذي يقوم به حزب الله وروسيا وإيران في سورية، في تشابهٍ مع عملية تهجير الفلسطينيين، وتشريدهم في بقاع الأرض (هم يشرّدوا مرة أخرى من سورية على يد الإسرائيليين الجدد)، فنصبح أمام تشابهٍ مطلق مع السياسة الإسرائيلية، منذ بداية تكوّنها، وهو الأمر الذي توّج، أخيراً، باستعراض عسكري فج وسقيم، في تحدٍّ واضح لإرادة السوريين وكرامتهم المهانة، وفي تماهٍ مع سلوك المستعمرين عبر التاريخ، الأمر الذي يعرّي الممانعة كلياً، ويوحّدها مع منطق عدوها، فتصبح هي هو. هذا ما تقوله الوقائع حرفياً، بعيداً عن الأدلجة، بما يعني ذلك أنّنا أمام اعترافٍ ممانعٍ بصحة ما تقوله إسرائيل عن محاربتها “الإرهاب الفلسطيني” من جهة، وأنّ هذه الحرب ستسحق المدنيين، إلى أن ننتصر على هذا “الإرهاب” أو لا بأس أن يذهب ضحايا مدنيون في سورية، في سبيل تحقيق الهدف الأكبر، أي سحق “الإرهاب السوري”، كما تفعل إسرائيل في سحق “الإرهاب الفلسطيني”.
إلا أنّ وصف الممانعة بالأسرلة، وفق الكلام السابق، يبدو ثقيلاً على اللسان العربي، ما يوصلنا إلى أزمة العقل العربي وطريقة تفكيره، فهو عقلٌ ما زال أسير إيديولوجياته ومحرّماته ومقدّساته، يستقي منها أفكاره، قبل أن يقرأ الوقائع. ولهذا، يحجم عن قول الحقائق استناداً لما هي عليه، بقدر ما يقولها مواربةً أو استناداً إلى شيء سابق، وهو أمر يعود جذره إلى مرحلة الاستعمار، حيث الأجنبي أو المستعمر أو الآخر (في الذهنية العربية) أشدّ فتكاً وإجراماً من الأخ أو القريب. ولهذا، يبدو المستعمر أكثر رجماً وشيطنةً في ثقافتنا من المستبد أو “الأخ المجرم” (إذا استثنينا الكواكبي)، إذ تستسهل ثقافتنا رفع السلاح بوجه المحتل، في حين أنها تداور وتناور، حين يتعلّق الأمر بمستبدٍّ تكون جرائمه أشدّ، وبما لا يقاس بجرائم المستعمر نفسه. العقل هنا ينظر لطبيعة المجرم ولونه، لا للجريمة، فالأصل عنده أنّ جريمة الأخ أقلّ وطأةً من جريمة الغريب، وهو عقلٌ لا شك في أنّه ما زال يقيم في عصر ماضٍ. ولهذا، يصعب على العقل العربي أن يقول إنّ تصرفات الممانعة هي إسرائيلية في سورية، وهو ما قاله بوتين بوضوح، لأنه بعيد كل البعد عن حساسيات (وقيود) ثقافتنا التي أغرقها الصراع العربي الإسرائيلي (وهو صراع حق في نهاية المطاف، لأنّ إسرائيل دولة عنصرية ومحتلة) بقيودٍ ومحرّماتٍ كثيرة وضعتها سلطات الممانعة وأحزابها، لكي تمرّر سياساتها، وفي مقدمتها سياستها الإسرائيلية/ الإيرانية/الطائفية في سورية.