كان يجب أن يصبح هذا الطفل، طفل الموصل الذي «سحله» الطائفيون وهرسوا جسده الطري بجنازير دبابة تابعة للجيش العراقي بالتأكيد، «أيقونة» هذه الحرب القذرة، التي باسم القضاء على «داعش»، الذي اختُرع اختراعًا ليكون مشجبًا تُعلق عليه كل الجرائم التي يرتكبها هذا الثالوث غير المقدس؛ نظام بشار الأسد، والروس، والإيرانيون، ومَن معهم من شراذم طائفية، التي بات ثابتًا ومؤكدًا أنه لا هدف فعليًا وحقيقيًا لها إلا القضاء على العرب السنّة، وهدم منازلهم وإخراجهم من ديارهم ودفعهم تحت وطأة الجرائم المتلاحقة، وأبشعها هذه الجريمة، إلى مغادرة العراق وطرق أبواب اللجوء والهجرة، وعلى غرار ما حصل مع الملايين من السوريين الذين استُهدفوا ليس لأنهم آزروا المعارضة والتحق بعضهم بها، بل لأنهم يتمسكون بعروبتهم وبأمتهم العربية.
كانت «أيقونة» الحرب الفيتنامية تلك الطفلة فان ثي كيم فوك التي سُمّيت «طفلة النابالم»، من قرية ترانج بانج، التي بعد يوم واحد من هروبها عارية بعد إصابتها بالقنابل المحرمة تم نشر صورتها المرعبة في جميع أنحاء العالم، وحقيقة أن تلك الصورة وردود الفعل الكونية عليها هي التي كانت سببًا رئيسيًا في إيقاف تلك الحرب القذرة، التي كانت من أعنف حروب القرن العشرين.
لأنه عربي فإن طفل الموصل، الذي تم هرس جسده الدامي بجنازير دبابة مذهبية، قد انتهى هذه النهاية المأساوية، دون أن يُعرف اسمه، ولم تُعرف سنوات عمره، وذلك في حين أن المجرمين القتلة قد ادعوا أن القاتل هو «داعش» الذي بات واضحًا أنه تم اختراعه ليكون مشجبًا تُعلّق عليه كل الجرائم التي ارتُكِبت ولا تزال تُرتَكَب في سوريا والعراق.. واليمن وفي كل مكان!!
لا توجد صورة أبشع من هذه الصورة التي لم يتوقف عندها الإعلام العربي ولا الإعلام العالمي، بل إنه مرَّ عليها مرورًا عابرًا، كأنها ليست تجسيدًا للحقد الطائفي المجلَّل بالعمامة الإيرانية السوداء ضد العرب (السنّة)، وكأن هذا الطفل الذي أصبح بلا اسم وبلا عائلة وبلا عنوان لا يجوز أن تُسلَّط عليه الأضواء كما سُلِّطت على جرائم «داعش» وغير «داعش» ضد أبناء وبنات الطائفة «الإيزيدية»، والصحيح «اليزيدية»، التي بقيت تعيش وعبر محطات التاريخ كلها كطائفة عراقية، لأبنائها ما للعراقيين، وعليها ما عليهم!!
إن ما يدل على أن «داعش» هو مجرد مشجب عُلّقت عليه هذه الجريمة وجرائم أخرى كثيرة (وهذا مع أنه تنظيم إرهابي وقاتل ويجب القضاء عليه وبسرعة)، أنّ طفل الموصل، هذا الذي لم يُعرف عنه حتى الآن سوى أنه عربي ومسلم على المذهب السنّي، قد ذهب بلا اسم وبلا عنوان وبلا ردود فعل عربية ودولية فعلية، وذلك مع أن ما جرى معه لا يقل بشاعة عما جرى مع «أيقونة» الحرب الفيتنامية فان ثي كيم فوك، التي أوقفت صورتها المرعبة حقًا تلك الحرب التي توصَف بأنها من أبشع حروب القرن العشرين، ربما باستثناء الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية.
ثم، وبما أننا بصدد المقارنة بين حرب فيتنام وهذه الحرب، التي يشنها الإيرانيون والروس ومعهم كل هذه الشراذم الطائفية، بالإضافة لأتباعهم في النظامين السوري والعراقي، فإنه لا بد من الإشارة إلى مجزرة «ماي لاي»، التي ارتكبها جنود أميركيون بقيادة الملازم ويليام كايلي ضد قرويي هذه القرية آنفة الذكر، وأضرموا النيران في بيوت أهلها، مما أدى إلى حرق نحو خمسمائة واحدٍ منهم، وأصبحت صور تلك المحرقة تعمّ العالم بأسره، مما أدى إلى آلاف المظاهرات الاحتجاجية في معظم المدن والعواصم الغربية.
وحقيقةً، فإن ما يدل على عدم الإنصاف وعلى أن هناك مؤامرات للتغطية على هذه المؤامرة التي تُنفَّذ في سوريا وفي العراق، هو أن ما يحصل يوميًا وفي كل ساعة في هذين البلدين العربيين وضد العرب تحديدًا أبشع وأسوأ بألف مرة مما جرى في «ماي لاي» الفيتنامية، على بشاعة تلك المجزرة التي سُجّلت كأبشع ما شهده التاريخ في حقبه المتلاحقة، وهنا فإنه تمكن الإشارة إلى كل ما جرى ويجري حتى الآن في حلب وفي الموصل، وما جرى في داريا وفي الزبداني وفي حمص وحماه وإدلب وأيضًا في نينوى وفي الفالوجة وفي كركوك وسامراء وكل المدن والقرى العراقية التي مرَّ عليها «الجراد» الطائفي في الحشد الشعبي، وفي كل هذه التنظيمات المذهبية التي أعلن قادتها، وما زالوا يعلنون، أنهم قادمون إلى هذه المدن والمناطق العربية (السنّية) للانتقام من أهلها، لأنهم أحفاد «الأجداد» الذين ارتكبوا مذبحة كربلاء!!
وأيضًا فإن ما يجب أن يقال في هذا المجال هو أن استهداف العرب الذين ما زالوا مُستهدَفين في سوريا والعراق قد وصل إلى «الأشقاء» الكرد، وحيث تحدثت تقارير منظمة «هيومان رايتس ووتش» الموثقة والمدعومة بالشهود والأدلة عن أن قوات «البيشمركة» ومعها القوات الأمنية الكردية التابعة لحكومة إقليم كردستان – العراق في أربيل مسؤولة عن تدمير منازل إحدى وعشرين قرية عربية من قرى كركوك ونينوى، وبالطبع فإن هذا التدمير لا بد أنْ رافقه قَتْل وجرح الألوف من العرب وتشريد مئات الألوف وأكثر، وعلى غرار ما يجري حاليًا، حيث أصبحت دمشق الفيحاء معروضة كلها للبيع مع اشتراط أن يكون المشترون إيرانيين، ويقينًا فإن هذه هي عمليات التغيير الديموغرافي التي يجري الحديث عنها، وهناك مناطق أثرية قديمة، مثل منطقة باب توما (المسيحية)، اقتربت من أن تصبح منطقة إيرانية!!
وهنا فإنني ومع يقيني بأن تقارير «هيومان رايتس ووتش» صحيحة كل الصحة، وأن منازل إحدى وعشرين قرية عربية من قرى كركوك ونينوى قد سُويَّت بالأرض وشُرِّد سكانها العرب فعلاً، أكاد أجزم.. لا بل أجْزم أنَّ الرئيس «كاك» مسعود بارزاني لا يمكن أن يسمح بارتكاب كل هذه الجرائم ضد العرب الذين بينهم وبين الكرد، إنْ في العراق وإنْ في سوريا وحتى إنْ في الأردن وفلسطين، اندماج تاريخي، وهكذا فإن أغلب الظن أن كل هذا الذي جرى قد جرى من وراء ظهر هذا الزعيم الكردي الكبير، ودون معرفته.
المؤكد أن الرئيس مسعود بارزاني الأكثر معرفة بأن الذي ارتكب كل الجرائم ضد الأكراد في شمال العراق، وأبشعها جريمة «حلبجة» الشهيرة، قد ارتكب مثلها وأبشع ضد العرب السنّة والشيعة، ولذلك فإنه، أي الزعيم الكردي، لا يمكن أن يسمح بفرض حلٍّ لـ«الإشكالات» العربية – الكردية باستغلال هذه الظروف الطارئة وتدمير مناطق بأكملها، خصوصًا أنه «الأعْرف» بأن الحلول المفروضة غير دائمة، وأن أخطر ما فيها أنها ستملأ القلوب بالأحقاد، وأنها ستعزز نزعة الثأر، ليس لدى الذين اقتلعوا من مناطقهم فقط، وإنما أيضًا لدى أبناء هذه الأمة (العربية)، الذين لا بد أن تنهض أمتهم من كبوتها الحالية العابرة ذات يوم غير بعيد.