“معارضتنا” وحقبة ترامب
سيكون تساؤلاً مثيراً للسخرية، لو وجهناه، عما أعدت المعارضة السورية وداعميها استباقاً لفوز ترامب، ولن يكون الحال بأفضل فيما لو كان التساؤل عما فعلت المعارضة سوى انتظار رحيل أوباما. ما يثير سخرية أكبر أن انتظار رحيل أوباما رسمياً قد يليه انتظار آخر، هو الانتظار التقليدي حتى تنتهي التعيينات في إدارة ترامب وتبدأ عملها فعلياً، وهذا انتظار قد يترافق بالتنويه بمزاجية ترامب وتقلباته ما يستدعي انتظار انقلاب مزاجه لصالح الثورة، أو انتظار تحقيق وعوده في التخلي عن الاتفاق النووي مع إيران، ومن ثم المواجهة المرتقبة معها.
في فترة الانتظار هذه، حشدت موسكو ترسانتها لتغيير الوقائع على الأرض، وذلك لم يكن مفاجئاً إلا لمن يريد التظاهر بالمفاجأة. المعركة على الأرض ليست متكافئة أصلاً، وتبرير خسائر فصائل المعارضة بتفوق العدو الناري وبالزيادة الضخمة في أعداد ميليشياته لا يغير من الوقائع، وإن دلل على بسالة المقاتلين، ففي النهاية يصعب كسب حرب شبه تقليدية مع رجحان كفة العتاد والمقاتلين لجهة الخصم، وبالطبع مع فقدان الحليف الموثوق وخطوط الإمداد المتواصل.
صحيح أن الصراع خرج عن إطاره السوري منذ تدخلت طهران مباشرة، بواسطة حزب الله والحرس الثوري وبعد ذلك بواسطة العديد من الميليشيات الشيعية، ما فتح الساحة السورية على مصراعيها أمام صراع إقليمي. إلا أنه من الصحيح أيضاً أن المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، لم تعمل على تعزيز بنيتها الداخلية، لمواجهة طويلة مع النظام، وأيضاً لتشكيل ثقل حقيقي يمنع استخدام بعض منها وفق أهواء الخارج. يمكن القول بأن المعارضة بقدر ما أهملت عمقها الداخلي، مستندة إلى اتساع رقعة النقمة على النظام، فقدت قوتها إزاء الخارج سواء على صعيد التمثيل السياسي الذي انحسر وزنه باضطراد منذ عام 2012، أو على الصعيد العسكري “في التوقيت نفسه” حيث بدأ الإجهاز على أي طموح لإنشاء تشكيل عسكري وطني جامع.
كما نعلم منذ عام 2012 بدت وظيفة الحرب أميركياً هي الضغط على النظام لإجباره على القبول بتسوية سياسية، هذا هو المعلن مع علم الإدارة باستحالة تحقيقه مع نظام مستعد لتسليم البلاد إلى طهران وموسكو على أن يقبل تسليمها إلى سوريين آخرين ولو كانوا من موالاته. هذا النهج الأميركي كان من الممكن مواجهته بواحد من احتمالين، إما تحقيق انتصارات خاطفة ومؤثرة بخلاف المخطط، وبالتالي فرض أمر واقع على الخارج، أو التلاؤم معه بالتخفيف قدر الإمكان من الخسائر والنزيف المترتب عليه، أي باعتماد تكتيكات قتالية توقع الأذى الأكبر في بنية النظام الأمنية والعسكرية مع الحرص على أرواح المدنيين وممتلكاتهم.
لقد وصل نهج أوباما إلى نتيجته المحتومة التي لم يكن يصعب توقعها، أي إلى تغليب النظام وحلفائه على فصائل المعارضة، لم تفز كلينتون لتغيّر في النهج الأميركي بحسب ما طرحته في حملتها الانتخابية، ومن المرجح أن يتوج ترامب نهج سلفه بنفاق أقل. هذا التخلي المتوقع عن النفاق سوف يجرد المعارضة من أسباب تكاسلها عن مهامها الأصلية، ويسحب منها ذريعة استسهال الاعتماد على خارج لم يكن متشجعاً في أي وقت لحماية السوريين.
يُفترض أن يضع الواقع المستجد المعارضة أمام احتمالين، فإما تقرير أن الحل بيد الخارج الذي لن يزيح الأسد، وتقرير أن الثورة لا تستطيع الانتصار دون اعتماد عليه. بعبارة أخرى: إعلان فشل الثورة نهائياً، أو فشلها عبر حل لا يتعدى إصلاحات شكلية يرحب بها النظام لقاء تطبيع علاقاته دولياً. الاحتمال الآخر، وهو الأكثر مشقة، أن تعلن المعارضة تخليها عن النهج الذي اتبعته حتى الآن، على الصعيدين السياسي والعسكري، وأن تعمد إلى تشكيل تمثيل وطني لها، تمثيل لا يخضع كما هو الحال الآن إلى تجاذبات خارجية، أو ينضوي تماماً تحت مظلة خارجية لها أجندتها الخاصة.
على الصعيد العسكري، يُظهر الاقتتال البيني بين فصائل في حلب المحاصرة الآن، وبين فصائل في الغوطة الشرقية، بؤس ما آلت إليه قيادات فصائل المعارضة من تغليب المطامع الذاتية على المصلحة العامة. فمن المعلوم أن حوادث الاقتتال الدموي هذه تحدث تحت الحصار الخانق وأحياناً تحت القصف الروسي، ولا يشفع لـ”أبطالها” أو لبعضهم مقاومتهم النظام، مثلما لا تشفع المقاومة لبعضهم في ممارسات تعسفية بحق المدنيين الذين يشاطرونهم بؤس الحصار. ذلك من دون التطرق إلى الفصائل المتطرفة التي تجهر بعدائها للحرية والديمقراطية وكافة مثل الثورة، وإلى أيديولوجياتها العابرة للحدود المتنافية مع أي بعد وطني. وليس خافياً أن مشروع تصفية هذه الفصائل، بدءاً بالأكثر اعتدالاً، سار ويسير بخطى حثيثة مع استغلال تشرذمها، وأية استفادة من التجربة لا تلحظ فشل البنى التنظيمية السابقة وفشل التكتيكات المتبعة لن تعني مستقبلاً سوى نوعٍ من العنف العدمي الذي لا يحمل آفاقاً سياسية.
مع الإقرار بأن الظروف لم تكن إيجابية بما يكفي لصالح الثورة، يلزم الإقرار بأن أطر المعارضة كافة أثبتت فشلها خلال خمس سنوات، وتم تعليق الفشل على القوى الدولية، وتالياً تعليق الآمال على تغير في موازين الصراع الدولي. مع مجيء ترامب إلى الرئاسة من المرجح إسدال الستار على هذه الحقبة، ما يتطلب التعويل أكثر من قبل على العوامل الذاتية، وعلى ابتداع أساليب مقاومة أقل كلفة على الثورة، وأقل ارتهاناً للدعم الخارجي، مع قدرتها على منع النظام من الزعم بأنه استعاد سيطرته وأعاد السوريين إلى حظيرته. التحدي صعب لكنه غير مستحيل، فهناك في سجل الثورات العالمية الكثير مما يمكن تعلمه على صعيد الجهد السياسي المديد، والكثير مما يمكن تعلمه عن المقاومة النوعية بأسلحة بسيطة، ولئن برهنت المعارضة السورية على أميتها حتى الآن فالكارثة الأسوأ إذا أثبتت عدم قدرتها على التعلم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :