يتميز الصراع في سورية عن سواه من الصراعات بخطورته وحركيته، فإضافة إلى تكتيكات حافة الهاوية التي تستخدمها روسيا، بصفتها اللاعب المحرك الآن، فإن القتال ينتقل بسلاسة مذهلة من أطراف الصراع المحلية إلى اللاعبين الدوليين والإقليمين، ما يعني أن استمرار ذلك، مع عدم توافر آليات لإدارة الصراع، ستفضي حتماً إلى تصادم بين تلك الأطراف.
ما حصل أن أطراف الصراع، الدولية والإقليمية، استخدمت نمطاً من التكتيكات يمكن تسميتها بـ «المغلقة» ولا تنطوي على إمكان للتفاعل أو المساومة، بمقدار ما تفرض خيار المواجهة أو التراجع، وقد كثّفت روسيا من استخدام هذا التكتيك من خلال استراتيجيتها الهجومية وإصرارها على أن جوهر القضية هو الحرب على الإرهاب ومساندة حكومة شرعية، في حين اتّخذت الاستراتيجية الأميركية منحى التفاوض السياسي من دون تحديد خطوطها الحمر، ما أظهر إدارة أوباما كأنها وسيط محايد، والدليل أن مفاوضيها كانوا يضعون في جيبهم، عند كل تعنت روسي، التهديد بالانسحاب من المفاوضات كعقاب لروسيا!
هذه الطريقة في إدارة الصراع، من جانب اللاعبين الكبار، هي المسؤولة عن إيصال الصراع إلى هذه المرحلة من الخطورة، واليوم تجد روسيا نفسها مضطرة لخوض معركة تدمير حلب، رغم إدراك صانع القرار الروسي حجم الأخطار التي سترتبها هذه العملية، ذلك أن التراجع الروسي، بعد كل الاستثمارات اللوجيستية والحرب الدعائية، ستكون له أثار عكسية على الصورة التي يحاول فلاديمير بوتين رسمها عن روسيا الجديدة، كما أنها ستعني بداية التراجع لمشروع عودة روسيا قوة فاعلة على المسرح الدولي.
في المقابل، فإن إقدام روسيا على هذه الخطوة سيضع أميركا في مأزق استراتيجي خانق، إذ عدا سقوط هيبتها، فإن انتصاراً روسياً حاسماً في حلب سيغذي العدوانية الروسية على مسارح أخرى في بحر البلطيق والبحر الأسود وأوكرانيا، وسيدعم رغبة روسيا في مد نفوذها صوب آسيا وأميركا اللاتينية، بعد أن أعلن الكرملين رغبته في إعادة إحياء وجود روسيا هناك.
وهذا الأمر في حال حصوله، سيؤدي إلى إجراءات ملموسة على صعيد تهديد الأمن القومي الأميركي، إذ سيترجم إلى حيثيات من أرض وقواعد عسكرية، وحينئذ لن يكون هامش قدرة المفاوض الأميركي وحده في مجال الخطر وإنما الوجود الأميركي ذاته، في ظل وجود حكام في الكرملين على شاكلة بوتين ونخبة عسكرية تستثمر في المغامرة وتعتبرها أحد عناصر قوة الدولة.
ويبدو أن ثمة إدراكاً متأخراً لدى البيت الأبيض، بأن إنقاذ حلب مسألة باتت صعبة، ما يستوجب البحث عن خيارات أخرى، وهو ما دفع بوزير الخارجية جون كيري إلى القول أن الحرب في سورية لن تنتهي بسقوط حلب، ولكن ما هي البدائل التي تملكها واشنطن لتحويل تهديداتها إلى واقع يدفع روسيا إلى إعادة حساباتها؟
ثمة قاعدة تترسخ يوماً بعد آخر، في مسرح الصراع السوري، مفادها أن الحفاظ على المصالح يتطلب الانخراط المباشر في أرض المعركة. روسيا وتركيا توصلتا إلى هذه القناعة، وأثبتت تجارب الانخراط التركي والروسي أن تكلفة الانخراط المباشر أكثر عائدية وأقل مخاطرة من دعم الوكلاء. فلو أن روسيا لم تتدخّل لسقط نظام الأسد وخرجت من المولد بلا مكاسب استراتيجية، ولو أن تركيا بقيت متردّدة لكان الشريط الحدودي أصبح كردياً بحكم الأمر الواقع، واستمرار تردد أميركا سيجعلها خارج أسوار الشرق الأوسط.
سيكون على الإدارة الأميركية الجديدة التحرر من القيود الكثيرة التي وضعتها إدارة أوباما على نفسها والتصورات الخاطئة التي كبّلت يديها، فيما ظهر بوتين كبطل لأنه لم يضع قيوداً على سلوكه، وتثبت حالة الغليان التي تشهدها المؤسسات العسكرية والأمنية الأميركية احتجاجاً على سياسات أوباما تجاه روسيا، في سورية وغيرها، أن ثمّة خيارات ستكون الإدارة المقبلة مجبرة على اتخاذها.