بيلسان عمر
أبونا الفاضل:
هنا وفي عتمة زنزانتي أستذكر كلماتك عن قضاء الله فينا، وأسترجع قولك بأن الله قد جعل بغامض قضائه وقدره ما يجب أن نراه، ولو سوّرنا أنفسنا بأسوار كالفضاء، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار القدر، وقدّر الله علينا أن صيّرنا إلى ما صيّرنا إليه..
من هنا من خلف قضبان السجن وأقبية الظلام أخاطب جناحكم، وكما تعلمون يا سيدي أنني هنا أجلس مع إخوة لي مسلمين ومسيحين، وغيرهم لا دين له ولا طائفة، وقد التقيت بأحدهم يتصل مع الله دائمًا، وقلبه معلّق بالذكر وكلام مولاه، وقد علمني آية من قرآنهم الكريم {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال30، وكما ترى يا سيدي أن الله تعالى قدم الإثبات «السجن» في الآية السابقة على القتل أو النفي، لما فيه من مشقة وعناء.
أصبحت وصديقي نتبادل القرآن والإنجيل، نقرأ لبعض، وقرأت في القرآن قصة المسيح ومريم العذراء، وأخبرني أنه كان يعلّم أطفاله في المدرسة أقوال السيد المسيح، فهو بنظرهم نبي كما محمد وموسى وإبراهيم، كلهم جاؤوا لتخليص البشرية من آلامها، وللوقوف إلى جانبها في تحقيق آمالها، وكل مرة أجد في كلماته بلسمًا لجروحي، وأستذكر أولى أيام مظاهراتنا السلمية كيف كنا نخرج ونهتف بأعلى صوتنا (بدنا وحدة وطنية…إسلام ومسيحية)… وها نحن الآن وخلف القضبان نعيش هذه الوحدة، فأرجو أن تصلي لأجلنا، وتبارك خطواتنا ومساعينا…
علمت صديقي نصيحة السيد المسيح: (يابن آدم الضعيف اتق الله حيثما كنت، وكن في الدنيا ضيفًا، واتخذ المساجد بيتًا، علم عينك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك التفكير، ولا تهتم لرزق غد فإنه خطيئة)، وعندما كنا نلتقي بصاحب خطيئة أو ذنب بحق أحد أصحابه، كنا نحاول أن نقوّم خطأه ما استطعنا لذلك سبيلًا، وكنت أقول لصديقي كلامًا على لسان السيد المسيح: (لا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء واشكرو الله على العافية)
ومع كل لحظة غضب كانت تعتريني وصديقي كنت أتوجه إلى نصيحة المسيح وأحتضن صديقي المخطئ، أو يحتضنني، مرددين معًا قول المسيح «إذا غضبت من صديقك فضمه إلى صدرك، فمن المستحيل أن يستمر غضبك وأنت تحتضن شخصاً تحبه».
حضرة الأب:
حين بلغني أنك بخير بعد أن جاءني قبلها نبأ وفاتك، وحينما علمت خلاف ذلك، فرحت كثيرًا بأنك ما زلت بمكانك كما عهدتك، فالحمد لله على دوام صحته ونعمه عليك، وأنا أعدك أنني باقٍ على العهد، كما ربيتنا وكما علمتنا من نصائح المسيح، ومهما حاولوا أن يصفعوني ففي كل مرة سأدير لهم خدي الآخر ليصفعوني عليه، وسأبقى صامدًا لا مساس، طالما أن روح الله معنا وترعانا وتكللنا بالصبر والغفران.
كنت تعلمنا أن الدين مهما اختلف المهم صفاء السريرة، وها أنا ألمس ذلك اليوم بعيني المجردة، وأنا أقف بذهول من حال العُرب الذين فرقتهم التقاليد والعادات لا الديانات التي تدعو للوحدة، وأنا أحب أن أقول لهم:
يا أهلنا العُرب يا قلبًا ممزقة هلا انتبهتم إلى المسلم والمسيحي يا كُمَلُ
فدتكم الروح يا أهلي مكللة طيبًا ومسكًا وتاجًا فوق الإنسانية حلل
هذي الألوف من الجرذان راحلةٌ عن أرضنا بوحدتنا كما أسلافهم رحلوا
صونوا دماكم قيومًا من قذارتهم كل الشآم بدم مسيحي ومسلم تغتسلُ