… والحكاية هي عن مدينة لا تزال تتعرض لحصار ظالم، ابتليت أسوة بغيرها من مناطق الصراع السورية بكل أنواع الفتك والتنكيل في ظل صمت مريب، كأنها في كوكب آخر، أو كأن ثمة مؤامرة كونية للنيل منها، وتركها وحيدة أمام آلة قمع لا ترحم.
مدينة صارت مشاهد موت أبنائها البسطاء وتشريدهم وخراب بيوتهم وممتلكاتهم أشبه بمشاهد روتينية، وكأن مئات ألوف المدنيين المحاصرين فيها، ليسوا بشراً يستحقون الحياة، بل ينتظرهم المزيد من العنف والقهر لأنهم آثروا البقاء في أرضهم، أو لم يتمكنوا من الهرب إلى مناطق آمنة، إما لضيق الحال وإما خوفاً من مصير أسوأ، وقد لمسوا شروط العيش المذلة لإخوانهم المشردين داخل البلاد وخارجها.
مدينة فرض عليها أن تخوض صراع وجودها في وقت يبدو العالم كأنه متواطئ على إبقاء الجرح السوري مفتوحاً واستكمال تحطيم اجتماع السوريين الوطني وحلمهم في الحرية والكرامة، ربما لأن هذا الحلم هو الخطر الأشد عليهم، وربما لأن العالم بشعوبه وحكوماته يسير نحو التقوقع والانعزال وفقد حساسيته الإنسانية ولم يعد يكترث بما يحصل من فظائع وأهوال، وبالأعداد المتزايدة من الضحايا والجرحى والمشردين في بؤر التوتر والصراع، وربما عملياً، لأن سلبية واشنطن وانشغالها بأوضاعها الداخلية أطلقا يد موسكو لتفعل ما تشاء، أو لأنهما توافقتا معاً على تقاسم النفوذ بين العراق وسورية في تزامن لمعركتي الموصل وحلب!
مدينة من سوء حظها أن تغدو في نظر المتحاربين «بيضة القبان» وأن يذهب النظام السوري وحلفاؤه بعيداً في الاعتقاد بأن الانتصار فيها، وإن لم يكن حاسماً، سيحقق انعطافة كبيرة في مسار الصراع، ويقلب طاولة المفاوضات السياسية على رؤوس الجميع، عدا اعتقادهم بأن إنجاز السيطرة على العاصمة الاقتصادية للبلاد، سيمكنهم من التفرغ للعاصمة السياسية دمشق وجوارها، والتعامل بفاعلية أكبر مع المعارضة المسلحة هناك، لاستعادة مناطق خرجت عن السيطرة قبل سنوات.
مدينة أحد وجوه بلائها نظام عاجز عن تقديم التنازلات السياسية، أنكر ولا يزال مشروعية حراك الناس ومطالبهم، ودأب على تصويرهم كأدوات طائفية ومتآمرة يحل سحقهم، وليس من رادع يردعه في استجرار ما استطاع من إمدادات خارجية واستخدام العقاب الجماعي والتنكيل العشوائي في رهان على أخذ المدينة بالقوة، فكيف الحال وحكومة طهران لا تتوانى عن تقديم كل أشكال الدعم وزج أدواتها وميليشياتها لكسب هذا الرهان، في سياق الحفاظ على ما راكمته من نفوذ مشرقي تهدد بفعل تصاعد الصراع السوري؟ وكيف الحال عندما يتطابق الرهان مع مصالح الحليف الروسي، وقد غدا بقوته العسكرية مقرراً في حرب حلب، يمنح الهدن ويلغيها، يوقف القصف ويعاوده، تحدوه دوافع قوية للسيطرة التامة على المدينة ولو تكررت مشاهد غروزني وغيرها من مدن الشيشان، طامعاً في تحقيق وزن ودور جديدين يعيدان الصورة القديمة عن ثنائية القوة العالمية؟!
القصد أن هدف الكرملين من حرب حلب، ليس فقط تصفية الجماعات الجهادية المتطرفة وتحجيم المعارضة المسلحة، وإنما الإمساك بزمام الملف السوري لاستخدامه ورقة ضاغطة في التنازع على حصص السيطرة والنفوذ العالميين وتحسين مستوى الشراكة والتعاون مع الغرب.
وحكاية الحرب والبلاء في حلب هي حكاية معارضة سياسية لم تنجح في نيل الثقة بأن تكون بديلاً آمناً، ولا تزال للأسف، رغم فداحة الدماء والتضحيات، كأنها في رحلة بحث عن ذاتها ودورها، معارضة ستجد نفسها أمام معضلة سياسية وميدانية كبيرة عند خسارة مدينة كحلب بقيمتها الرمزية والمعنوية في الوجدان السوري، يحدوها خوف من أن تؤدي هذه الخسارة إلى تغيير نوعي في التوازنات القائمة، ينعكس سلباً في العمق السوري بدءاً بدمشق، مروراً بمحافظة إدلب، وصولاً إلى كامل المناطق الخاضعة لسيطرة الفصائل المسلحة، فاتحاً الباب أمام معارك أخرى وربما هزائم أخرى.
وأيضاً هي حكاية بلاء مدينة تنامى فيها حضور الجماعات الإسلاموية المتـشددة ربطاً بتصاعد العنف والاستفزاز الطائفيين، إلى أن انتزعت الحيز الأكبر من المشهد، جماعات لا يهمها احترام التنوع وحقوق الناس، في وطن تعددي، عرقياً ودينياً وطائفياً، كالوطن السوري، بل تدعو إلى أسلمة الدولة والمجتمع متوسلة لغة القهر والإرهاب. ومع الاعتراف بأن بعض هذه الجماعات هو الأكثر استعداداً للمواجهة والتضحية، لكنه الأبعد سياسياً عن شعارات الحرية والديموقراطية، وزاد البلاء بلاءً تكاثر أعداد المقاتلين الوافدين من الخارج وتدخل المال السياسي في تمويل بعضهم بخاصة الأكثر تطرفاً.
في البلاء والحرب لم يعد ثمة شيء يقينيّ أمام الناس المحاصرين في حلب، لا حلول عملية ولا أفكار نظرية، وكل ما هنالك هو غموض وخوف يحاصران الجميع واستشعار مرحلة من تصاعد العنف والتدمير والإمعان في تخريب حيواتهم وممتلكاتهم.
ولكن، أياً يكن المصير الذي ينتظر حلب، لا بد أن يدرك المتحاربون، بخاصة النظام وحلفاءه أن ما يسمى انتصاراً على المدينة هو هزيمة للحياة والعقل والإنسان، هزيمة لوطن حلم أبناؤه بأن يكون رائداً في المشاركة في بناء صرح الحضارة الإنسانية… أن يدركوا أن من المحال أن تستتب الأمور لهم وأن يتمكنوا من حكم شعب منكوب ومفجوع لم يبقَ عنده ما يخسره سوى حالتَي الذل والخنوع اللتين يعيشهما، فأنّى لسلطة يمكن أن تستقر وتصنع مجتمعاً واقتصاداً وسياسة فوق ما صنعته من دمار وخراب؟
صحيح أن التاريخ لن ينسى أن الإنسانية لاذت بالصمت تجاه معاناة الشعب السوري بينما آلة العنف تعمل بأقصى طاقتها، لكن الصحيح أيضاً أن السوريين لن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل آذار (مارس) 2011. فثمة جديد واعد رسخ في الأرض وثمة متغيرات نوعية حصلت وتركت علامات عميقة في ضمائر الناس وطرائق تفكيرهم، لا يمكن أن تمحى أو تزول.