عبادة كوجان – عنب بلدي
يسعى محمد نواف، الطبيب المقيم في ريف إدلب، إلى تسجيل زواجه قانونيًا في مدينة حماة، بعد مضي ثلاثة أعوام على حفل الزفاف، رزق خلالها بطفله عبد الكريم، في خطوة مماثلة لجأ إليها صديقه حسّان، الصحفي المقيم في اسطنبول التركية، بتكلفة إجمالية تجاوزت عتبة 300 دولار أمريكي.
يتقاسم محمد وحسّان حرمان دخول مدينتهما، إثر مواقفهما المناهضة لنظام الأسد المسيطر عليها كليًا، لكنهما يتفقان ضمنيًا على ضرورة تسجيل عقود الزواج فيها، ليس شغفًا بدوائر “الدولة” والبيروقراطية والفساد المتغلغل فيها، وإنما لمعرفتهما المسبقة بأن حياتهما الزوجية لن تكون قانونية إلا بهذه الطريقة.
لم تنفع المكاتب القانونية التابعة للحكومة المؤقتة في تيسير أمور الشباب الراغبين بالزواج في بلاد اللجوء، كما فشلت المحاكم الشرعية المنتشرة في المناطق المحررة في توفير بديل قانوني لمحاكم النظام ودوائره، لنقف أمام آلاف الحالات المعقدة من الأزواج الجدد خلال سنوات الثورة، منهم من نجح في توثيق عقده، وآخرون مازالوا يعتمدون على ورقة “الشيخ (المأذون)” الصحيحة وفقًا لأحكام الشريعة.
بلاد المحاكم الشرعية دون غطاء قانوني
غضّت الشابة هلا وزجها الطرف عن تعقيدات الأحوال المدنية، واكتفى الزوجان السعيدان بعقد “الشيخ” كوثيقة “ربانية” للزفاف المبارك، وعاشا بضعة أشهر في سكينة واطمئنان عززها مولودهما الجديد، رغم تصاعد القصف المفرط على مدينتهما إدلب (المحررة حديثًا)، إلى أن أضحت الشابة أرملة بين ليلة وضحاها، وفقدت بعلها إثر برميل متفجر، أعمى البصيرة، تجذبه المنازل البيتونية عادة.
تمكث هلا، ذات التسعة عشر ربيعًا، برفقة رضيعها في منزل ذويها، هائمة على وجهها من شدّة الفقد تارة، والتفكير بمصيرها مع طفلها تارة أخرى، فلا وثيقة قانونية تثبت الزواج والإنجاب، وبالتالي لا حقوق لها كأرملة في سجلّات الدولة، ولا ذكر لاسم ابنها بالأصل.
تفكّر الشابة بصوت مرتفع، لدى حديثها إلى عنب بلدي، “لا أعلم ماذا أفعل، هل أحاول دخول مناطق النظام لتسجيل زواجي؟ أم ألجأ إلى محكمة شرعية هنا؟”. لن تتمكن هلا من تسجيل زواجها وابنها لدى النظام، لا سيما بعد وفاة زوجها، الأمر الذي قد يجبرها على القبول بوثيقة صادرة عن محكمة شرعية محلية، غير معترف فيها قانونيًا، وهو ما قد يمنعها مغادرة المناطق المحررة.
يعيش طارق ذات الظروف تقريبًا، فهو متزوج منذ نحو عام، ويعمل مراسلًا إعلاميًا في ريف إدلب، فضّل الاعتماد على عقد “المأذون” دون المضي في إجراءات توثيقه، فالنظرة العامة في المناطق المحررة هي أن “الإجراء الأساسي للزواج هو عقد الشيخ والإشهار”، هذا من الناحية الشرعية، أما من الناحية القانونية فيحصل الأهالي على وثائق تستخدم محليًا في المناطق المحررة فقط، دون اعتراف قانوني سوري أو دولي بها، وتفيد في مجال الإغاثة والإحصاء وقضايا معيشية فقط.
لكنّ الدكتور محمد نواف، العامل في المجال الطبي والحقوقي، بدا أكثر وعيًا من سلبيات عدم توثيق زواجه، فهو حتمًا لن يحصل على وثيقة قانونية لطفله ذي العامين، إخراج قيد أو جواز سفر، ربما تساعد العائلة لدى خروجها إلى دول اللجوء، فيما لو شاءت الأقدار.
ينوي الطبيب مراسلة محامٍ في مدينته الأم، التي غادرها قسرًا، يساعده في توثيق صك الزواج الشرعي، وتسجيل طفله في دائرة النفوس، وهو ما يضمن في المستقبل حصوله على أي وثيقة قانونية لازمة، بتكلفة ربما تتجاوز 300 دولار أمريكي (160 ألف ليرة سورية)، تدفع بمعظمها “براطيل (رشاوى)” لأولي العدل في دوائر النظام.
العرس في تركيا وتوثيقه لدى النظام
ربما غابت عن الصحفي حسان تفاصيل تثبيت الزواج، عندما همّ بإكمال “نصف دينه”، متجاوزًا عقبات اللجوء في اسطنبول التركية، وبعده الجغرافي عن عائلته الفارة إلى السعودية قبل ثلاثة أعوام، فمضى في الأمر بثبات، مستفيدًا من شيخ سوري كتب عقده الشرعي، وسط شهودٍ هم أصدقاء الغربة، وقّعوا على الورقة بفرح وبهجة، وبمباركة عائلته عبر “سكايب”.
انقضت ثلاثة فصول منذ زفاف الصحفي، حيث يعيش مع زوجته الحامل في استقرار نسبي، رغم القيود القانونية في الإقامة ومنغصات اللجوء، ليشكّل “ولي العهد” القادم حافزًا لتثبيت زواجه بذات الطريقة التي اتبعها صديق الثورة، محمد نواف، وهو ما مضى به مستفيدًا من محامٍ يعرفه في المدينة.
بات عقد زواج حسّان جاهزًا بعدما اجتاز مراحل المحكمة الشرعية والقصر العدلي والقيد المدني، ولا ينقصه سوى تصديق وزارة الخارجية، ليصبح وثيقة رسمية تلزم عند تسجيل المولود وإصدار جواز سفر له، وهي خطوة لجأ إليها عشرات الشباب السوريين في تركيا، وفق ما رصدت عنب بلدي، وهو ما دعا الصحفي لنصح صديقه الطبيب لينحو ذات النحو.
لجأ سوريون في تركيا إلى تثبيت زواجهم لدى الحكومة التركية، ليحصلوا على “دفتر عائلة” شبيه بالذي يملكه المواطنون الأتراك، يضمن التسهيلات الطبية والإنسانية لمن يرغب، ويشكّل وثيقة قانونية معترف بها داخل تركيا فقط، دون أن تمنح الطفل المولود أو ذويه وثائق سفر خارج البلاد.
توثيق العقود عند دوائر النظام مشروع وضروري
فشلت المحاكم والهيئات والمكاتب التابعة للمعارضة متعددة الأطراف في سد هذه الثغرة القانونية والاجتماعية، بل لجأت بعض الهيئات الشرعية إلى التضييق على محاكم مختصة بالأحوال المدنية في المناطق المحررة، وهو ما أدى إلى إغلاقها كليًا.
وحصلت عنب بلدي على معلومات خاصة، تفيد بقيام “الهيئة الإسلامية” في إدلب بالتضييق على قاضي محكمة بلدة معرة مصرين، والتي كانت تسهم في توثيق وقائع الزواج والوفاة والأحوال المدنية، وتسجيلها قانونيًا في دوائر النظام السوري، ما أدى إلى إغلاقها كليًا قبل نحو شهرين، فيما لا يزال مكتب السجل المدني في بلدة الدانا يوثق حالات الولادة والوفاة قانونيًا لأهالي المنطقة حصرًا.
وتوجهنا بالسؤال إلى القاضي إبراهيم حسين، عضو المجلس القضائي السوري المستقل، حول رغبة السوريين في توثيق معاملات الزواج في دوائر النظام، وأوضح أن “الوثائق الصادرة عن المحاكم الشرعية أو أي مؤسسة معارضة غير معترف بها قانونيًا، محليًا أو دوليًا، ولو وجد اعتراف بالوثائق الصادرة عن المحاكم الشرعية أو وزارة العدل في الحكومة المؤقتة لكان الناس قد لجؤوا إليها”، مشددًا على “حق الأهالي في التسجيل.. هذا واجب عليهم لضمان حقوق الأزواج والزوجات وأطفالهم”.
لم يختلف رأي المحامي والحقوقي عبد الناصر حوشان عن القاضي حسين، في قانونية وثائق النظام، مضيفًا في تبريره لجوء الأهالي لها، لـ “عدم قناعة المواطنين بالمحاكم الشرعية، بسبب تعدد مرجعياتها، وعدم تمثيلها المناطق المحررة كما محاكم النظام ودوائره، والتي تعتبر جزءًا من منظومة الدولة، وهو ما نفتقده في مناطقنا المحررة”، ملقيًا باللوم على المجتمع الدولي و”عدم رغبته بانتزاع شرعية النظام، من خلال تجريده من مظاهر سيادته”.
“نوثق في محاكم الدولة السورية، لا ضير في ذلك، هناك مفاهيم خاطئة لمناهضي الأسد، حول مؤسسات الدولة وملكية السوريين لها”، هو رأي المحامي “غ.ك” الميسر لعشرات عقود زواج السوريين خارج مناطق النظام، داعيًا الجميع لتسجيل زواجه قانونيًا، ونافيًا صفة “المصلحة المادية” عنه وأمثاله “نحن نيسر بأجور رمزية.. ندفع للمسؤولين ليغضّوا الطرف عن العقود”.
تسببت قضايا عدم تثبيت الزواج في سوريا أو دول اللجوء، بولادة أطفال مجهولي النسب بعد وفاة آبائهم إثر ظروف الحرب المعقدة، وهو ما حذّر منه القاضي الشرعي الأول في دمشق في تقارير إعلامية مختلفة، وسط إحصائيات تقديرية من دائرة الهجرة والجوازات عن وجود 37 ألف ولادة حصلت بين عامي 2011 و2015 في دول اللجوء، جميعهم لا يملكون أي وثيقة تثبت أنهم سوريون.