إبراهيم العلوش
تزايدت التصريحات والبيانات حول تحرير الرقة هذه الأيام، بشكل متواتر بالتزامن مع مجريات الانتخابات الأمريكية والتبدل في قيادتها بعد نهاية فترة حكم الرئيس الأمريكي أوباما، وتتضارب هذه التصريحات بين القوات الكردية، وبين المسؤولين الأتراك الذين يضاربون على هذه القوات المدعومة أمريكيًا ويرفضون مشاركتها بمجريات معركة تحرير الرقة.
لا شك بأن الخلاص من داعش ودحرها حلم كبير لأهل الرقة، ولكل السوريين الذي وقعوا بين فكيها الأسودين، والملوثين بالطاعون. فداعش مخلوق وبائي تناسل من زواج المتعة بين البعثيين وغلاة الأصوليين، وما يجمع بينهما بشكل أساسي هو احتقار الناس، والاستخفاف بمشاعرهم وبأفكارهم، وممارسة أقسى أنواع الإذلال ضدهم.
وخلال الأشهر الماضية تم الإعلان عدة مرات عن بدء معركة تحرير الرقة من قبل القوات الكردية المرتبطة بالـ “بي كي كي”، الحزب الكردي الذي يخوض صراعًا مسلحًا مع تركيا انطلاقا من جبال قنديل، وهذه القوات مدعومة من قبل الأمريكان والتحالف الغربي، ومن جهة أخرى تم الإعلان عدة مرات عن قرب تحرير الرقة، من قبل قوات الجيش الحر المدعومة من تركيا.
وما تأخير معركة تحرير الرقة إلا نتيجة صراع بين الأكراد المكلفين أمريكيا بقيادة المعركة، وبين الأتراك الذين يرفضون أن يمتد نفوذ مقاتلي جبال قنديل إلى الشمال السوري، ليكون جبهة تستنزف قواها ويديم الحرب ضدها خلال السنوات وربما العقود المقبلة.
وحدهم المدنيون في الرقة، وفي مناطق سيطرة داعش، هم من تمتد معاناتهم يومًا بعد يوم، ويخضعون لشتى أنواع التنكيل على أيدي قوات داعش وأجهزتها الأمنية، التي استنسخها ضباط البعث العراقيون من نماذج المخابرات العراقية، متعاونين مع بعض المعتقلين السابقين من السوريين الذين أتقنوا أساليب التعذيب التي خضعوا لها في سجون البعث السورية، وعمّموها على الناس بعد إطلاق سراحهم من قبل النظام، لنشر ثقافة الموت والتنكيل، ضد الشعب السوري الثائر، ولوصم ثورته بالإرهاب، ولطمس تجلياتها السلمية التي هزت ضمير العالم وكسبت التأييد من قبل الشعوب والمنظمات والناشطين الدوليين مما جعل سقوط نظام البعث الأسدي أمرًا حتميا قبل انبثاق هذا المخلوق الداعشي ومشتقاته الإرهابية.
في صباح أحد الأيام، بداية استيلاء داعش على الرقة، وفي ساحة المجمع الحكومي، قامت دورية للحسبة الدينية بحلاقة شوارب أحد الرجال أمام زوجته وأمام المارة في استعراض لقوة الاحتقار للناس، وهي إشارة إلى استثمار البيئة التي عززها النظام في احتقار السوريين. فداعش التي تحلق شوارب المارة في الرقة، وتجبرهم على اللباس الأفغاني، وتطمس نسائهم بالأسود، وتحولهن إلى كائنات مجهولة الملامح والوجود، يظهر قائدها أبو بكر البغدادي غليظ الشاربين وغير حليقهما ولا أحد من رجاله يستطيع انتقاده، وهذا يشبه حملات مكافحة الفساد البعثي التي تستثني رفعت أسد من المساءلة (لجنة من أين لك هذا، في السبعينات)، وتحرّم السؤال عن أموال البترول، أو عن المبالغ التي تجمعها عائلة القائد “الخالد” وأقاربها وأعوانها، في البنوك العالمية من جراء السلب والنهب.
وكذلك يتفق النظام وداعش على أن كل من هرب لاجئًا إلى تركيا -مثلًا- هو خائن وكافر، خائن لأنه هرب من قصف طائرات الأسد، وكافر لأنه هرب من بناء الدولة الإسلامية المزعومة والقائمة على التعذيب والذل. ولعمق الصلة بين النظام البعثي والنظام الداعشي، فإنهما لم يتحاربا إلا حول بعض المصالح البترولية والاقتصادية، وقد اتفقا سوية على محاربة الجيش الحر وتفريق صفوفه وتدمير تجمعاته، النظام عبر القصف الجوي، وداعش عبر الاختراقات الانتحارية.
تجربة التحرير السابقة من داعش والتي نفذتها قوات البعث الكردي بزعامة صالح مسلم المرتبطة بالـ “بي كي كي”، تحولت إلى استيلاء استيطاني ضد القرى العربية في تل أبيض وسلوك، وتحوّل التحرير المزعوم إلى احتلال جديد، وفرضت التغييرات على الناس، من التعصب الديني الداعشي إلى التعصب البعثي الكردي، الذي يُمارس حتى على الأكراد السوريين من قبل قادة جبال قنديل، الذين يتجاهلون سوريا، وينظرون شمالًا إلى تركيا ومعاركهم المقبلة ضدها، وهي ستكون امتدادًا لمعاركهم السابقة، التي استمرت عقودًا كثيرة ضد الدولة التركية، وستستمر زمنًا طويلًا، وستضحي بدماء أبناء الرقة من عرب ومن أكراد في معارك لانهاية لها، وهم مثل داعش، ومثل النظام، لا يعنيهم الشعب السوري، ولا تعنيهم ثورته من أجل الحرية والكرامة.
معركة تحرير الرقة التي يتزاحم عليها الأتراك والأكراد، تُغفل أن النظام هو صانع هذا المخلوق، وهو من يدعم وجوده، ولا خلاص من هذا الكائن الخرافي إلا بإسقاط النظام نفسه، لأنه هو معمل تفريخ هكذا نماذج انتجها خلال هذه الثورة، وقبل هذه الثورة، وكان يصدّرها إلى العراق وإلى لبنان، ولم تكن للاستهلاك المحلي، حتى وصلت منتجاته أخيرًا إلى الأراضي السورية، وساهمت بتمزيقها وتدميرها بالتعاون مع الطائرات الروسية، والميليشيات الإيرانية التي لا تقل إجراما عن داعش.
اللعبة الدولية التي صنعت داعش أو صمتت عن نموها، صدمتها عمليات داعش الإرهابية في المدن الأوربية، وها هي اللعبة الدولية ذاتها التي تصنع امتدادات المتعصبين من الأكراد وتشجعها، والتي ستتسبب بإرهاب جديد وبحروب وعداوات بين العرب، والأكراد، والأتراك، ولن تنتهي عقابيلها بعد تحرير الرقة من داعش، إلا اذا كان هذا التحرير بقيادة الجيش الحر من أهل الرقة ومن السوريين المؤمنين ببلدهم من عرب ومن كرد، وبأهداف واضحة تحفظ كرامة وحرية سكان الرقة، وتعيد لهم بيوتهم وأملاكهم المنهوبة، وتعالج مظلومياتهم جميعًا بعدل وبلا تحيز، وألا يكون هذا التحرير بابًا يعود عبره نظام الاستبداد إلى الرقة، كما عاد إلى تل أبيض عبر تسهيلات صالح مسلم وحزبه الذي يتقن البروباغاندا السياسية وطرق خداع الرأي العام الأوروبي والعالمي، ويصوّر سكان الرقة من غير الأكراد بأنهم مجرد دواعش، وهذا هو خطاب النظام نفسه للرأي العام العالمي ضد الثورة السورية!