حنين النقري – عنب بلدي
بكلماتٍ قليلة وبسيطة يعبّر المسرحيّ اليونانيّ أريستوفان عن مفهوم الوطن بالنسبة له، فيقول “الوطن هو حيث يكون المرء بخير”، ليتبعها بمقولة لاحقة “أينما رُزق الإنسان فذلك موطنه”، ورغم أن عمر هذين القولين أزيد من 2400 عام، إلا أنهما يختصران جُل التحديات التي تواجه السوريّين اليوم، ما بين البحث عن مكان يكونون فيه بخير وأمان، والبحث عن مصدر رزق يبني لهم أوطانًا صغيرة، في شتّى بقاع الأرض.
العمل “هو حياتي“
بعد قرابة 15 عامًا من العمل المضني خلف آلة الخياطة، وجدت السيدة أم شمس، (53 عامًا) من مدينة حمص، نفسها مجبرة على ترك بيتها وعملها ومدينتها، والخروج مع وفود الخارجين من سوريا، تقول أم شمس “توفّي زوجي وأنا في منتصف الثلاثينيات، وتركني مع أربع بنات، كان الأمر فجائيًا وصعبًا لكنني قررت العمل لأعيل بناتي، لم أكن أرغب بالإثقال على أهلي أو تضييع أبنائي بالزواج مجددًا”.
بدأت أم شمس تعمل بالخياطة، تأخذ العمل من المشاغل وتنفذه في منزلها لتسلمه في موعده، وعلى هذه الوتيرة استطاعت تربية بناتها وتزويجهنّ إلا ابنتها الصغرى، التي اضطرت للهرب بها إلى الأردن في ثاني سنوات الثورة، لتبدأ حياتها من الصفر “وصلت إلى الأردن هربًا من الدمار والحرب في مدينتي حمص، بناتي المتزوجات متفرقات في أماكن مختلفة وبأوضاع مادية لا تسمح لهنّ بمساعدتي، وهكذا كان يجب أن أعود للعمل”.
لا تحمل أم شمس شهادة لتعمل بها، ومهارتها الوحيدة هي الخياطة والتطريز، لذا كان التمسك بها الخيار الوحيد لتعيل نفسها وابنتها، تضيف “ليس بيديّ شهادة، والنقود التي ادخرتها للأيام السود تكاد تنفد، وهكذا لم يكن من بد إلا استئجار ماكينة والعمل عليها من جديد، لأعيل نفسي وابنتي”.
قلب الأم العليل
المسؤولية المبكرة، وعبء المصروف والبحث عن رزق أرهقا قلب أم شمس وجعلاها من مرضى القلب فور وفاة زوجها، وهو ما تعاني من آثاره بشكل أكثر حدّة اليوم، تقول “في هذا العام أجريت عمليتيّ قثطرة لقلبي، صحتي تتدهور لكنني لا أريد التوقف عن العمل، أريد أن أتمّ رسالتي وأكمل تعليم ابنتي التي تصرّ عليّ باستمرار أن تترك الدراسة وتساعدني”.
ترفض أم شمس أن تعمل ابنتها معها في الخياطة، فهي مصرّة على إكمال تعليمها والالتحاق بالجامعة “لا أرغب أن تكرر ابنتي تجربتي، العمل صعب، ولا نعلم متى نعود إلى سوريا، وحده العلم والشهادة الجامعية سيسمحان لها بحياة وعمل أفضل بالتأكيد”.
من الصفر.. مجددًا
غير بعيد عن حال أم شمس، هو حال الحاج أبو راتب، من ريف دمشق، قلبٌ عليل وغربةٌ صعبة، لا يزيد عنها بشيء إلا ببضع سنوات في العمر، وبرصيد صغير في البنك هو أمانه الوحيد في تركيّا، يقول أبو راتب “خرجنا من سوريا كما الجميع، بيوتنا وأملاكنا وأهلنا هناك، الحمد لله تمكنت من بيع قطعة أرض وحملتُ ثمنها معي إلى تركيّا، كيف يبدأ ستينيٌّ حياته من الصفر مجددًا؟”.
مع زوجته وابنته الصغيرة، بدأ أبو راتب بالاعتماد على مدخراته للعيش في منطقة ريفيّة جنوب تركيا، إلى أن شعر بالخوف، يضيف “رغم تقنيننا بالمصروفات وأننا ثلاثة أفراد فقط، إلا أن الحياة مكلفة هنا، و(يلي ما بينبع بيخلص)، آخر ما أريده هو ألا (أتبهدل) في آخر عمري، الموت أهون بالنسبة لي”.
كان تناقص رصيد “أبو راتب” إشارة الخطر التي تنبّهت لها زوجته “كانت زوجتي تلحّ عليّ أن أجد مصدر رزق ما، رغم سنّي وعدم وجود ما أعمل به، واقتنعت بكلامها في النهاية”.
اشترى أبو راتب بنصف ما يملكه في البنك سيّارة زراعيّة صغيرة وبدأ بالعمل عليها، يقول “أشتري الخضراوات بالجملة وأبيعها بسيّارتي أمام المساجد وفي البازار، أفكّر كثيرًا فيما آل إليه حالنا، والفرق بين أموري المادية اليوم وبين أحوالي أمس، لكنني أطرد هذه الأفكار وأحمد الله، أحاول أن أعيل زوجتي وابنتي، والرزق على الله”.
المعيل الوحيد
أنا الآن الرجل الوحيد والمعيل الوحيد لأربعة أخوات أكبرهن في السنة الجامعية الأولى، إضافة لأمي، لم يكن لوالدي أملاك سوى البيت الذي نعيش فيه، وهكذا بدأت البحث عن عمل بشهادتي، ووجدت عملًا في أحد معامل بمدينة عدرا الصناعية. |
لم يكد حمزة أن يفرح بتخرجه من كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية في دمشق حتى توفّي والده، وهكذا أصبح “المهندس حمزة” وفي نفس الوقت المعيل الوحيد لأسرته.
يروي حمزة قصته “أنا الآن الرجل الوحيد والمعيل الوحيد لأربع أخوات أكبرهنّ في السنة الجامعيّة الأولى، إضافة لأمي، لم يكن لوالدي أملاك سوى البيت الذي نعيش فيه، وهكذا بدأت البحث عن عمل بشهادتي، ووجدتُ عملًا في أحد معامل مدينة عدرا الصناعية”.
وافق حمزة على الوظيفة رغم أن الراتب بحدود 65 دولارًا شهريًا، وعلى الرغم من الخطورة الأمنية للذهاب والعودة من العمل، يقول حمزة “لديّ نوبات للنوم في المعمل أيضًا، ورغم خوف أمي وقلقها إلا أنني مستمر بالعمل هنا، فهي فرصة العمل الوحيدة التي عُرضت عليّ ولا يمكنني تفويتها”.
عملٌ صباحيّ.. عملٌ مسائيّ
لم تستطع العائلة تدّبر تكاليف معيشتها براتب حمزة فقط، وهنا بدأ بحثه عن عمل إضافيّ يتحايل به على اقتصاد سوريا المتدهور وغلاء المعيشة المتزايد، يتابع حمزة “وجدتُ لي عملًا كبائع مساعد في سوبرماركت قريب من المنزل، وهكذا أعود من المعمل لأنوب عن صاحب السوبرماركت في عمله، حتى العاشرة ليلًا، وهو عمل بأجر زهيد لكنه يزيد دخلي بضعة ألوف أخرى”.
من وارديّتين إلى ثلاث!
رغم أن وقته يكاد لا يتسع حتى لبضع ساعات من النوم، إلا أن حمزة لم يرفض إعطاء دروس خصوصيّة عندما طُلب منه الأمر من قبل بعض الطلبة الجامعيين في نفس تخصصه، يقول “ليس لديّ وقتٌ لنفسي أبدًا، جمعاتي مع من تبقّى من أصدقائي قليلة للغاية، بمجرد أن أدخل للمنزل أنام منهكًا على الفور، لكنني رغم ذلك وافقتُ على العمل كمدرّس خصوصيّ لطلاب جامعيين”.
يُعطي حمزة الدروس الخصوصية في يوميّ عطلته من المعمل في الفترة الصباحيّة، ليباشر دوامه في السوبرماركت مساءً، ويقول “أعرف أن أيامي تنسحق تمامًا تحت ضغط العمل والمعيشة الصعبة، لكنني أحاول أن أعيل إخوتي وأمي، لم أجد عملًا بمردود ماديّ أفضل، وخيار السفر غير مطروح حاليًا لتكاليفه الباهظة لستة أفراد، سأستمر بالعمل في ثلاث وارديّات حتى أجد عملًا أفضل أو يفرجها الله علينا جميعًا”.