خلال الأربعة سنوات التي سبقت انطلاق الثورة، رخصت السلطات السورية لعدد كبير من الصحف والمجلات فيما سحبت تراخيص العشرات أيضاً. إلا أن المطبوعات هذه افتقرت إلى الإصدار الدوري والتمويل ما أجبر أغلبها على التوقف. بينما استمرت بعض الصحف الاقتصادية الأسبوعية بالصدور في ظل صعوبات لا تحصى. ولم تتوقف عملية صدور صحف ومجلات جديدة وفي أحلك الظروف التي تلم بسوريا. ولعل أبرز ما يثير الانتباه إصرار بعض الشبان على إصدار جرائد ومجلات دورية معارضة من دون ترخيص، حيث تحرر أغلب موادها في المدن المشتعلة وتطبع تحت جنح الليل وتوزع فجرا، في تحد صارخ للنظام السوري. وعلى الرغم من قلة الموارد المالية والإعلانات وصعوبة الطباعة والتوزيع، يحرص القيمون على هذه المطبوعات على صدورها باستمرار لتكون شكلا من أشكال الثورة التي يبتدعها الشعب السوري لمواجهة النظام. وحملت هذه المطبوعات أسماء ثورية مستنبطة من حراك الشارع مثل “سوريا بدا حرية” و”عنب بلدي” و”سوريتنا”.
“سوريا بدا حرية”.. موهبة كتاب من رحم الثورة
التخطيط لتأسيس المجلة المعارضة “سوريا بدا حرية” بدأ في منتصف أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. وكان الإصدار الأول بتاريخ ٣٠ أكتوبر/تشرين الأول بـاثنتي عشر صفحة شارك فيها عدد من الناشطين السياسيين المعروفين مثل سهير أتاسي وملهم الدروبي، بالإضافة إلى مجموعة من الشباب المهتم بالمجال الإعلامي.
ويلفت رئيس تحرير مجلة نزير جندلي الرفاعي في حديث إلى “مركز الدوحة لحرية الإعلام” إلى أن “الخط الإعلامي للمجلة تطور لتضم بعد عدة إصدارات عددا من الكتاب والمحررين المحترفين والشباب الذين ولدت موهبتهم من رحم الثورة، ما أعطى المجلة طابعا متنوعا وأكثر تخصصا”.
تتميز المجلة، بحسب الرفاعي، بالهيكيلة المنظمة التي تحاول تغطية الثورة السورية من جوانب عدة. فالبداية تكون عادة من نبض الشارع الذي يحتوي على إحصائيات موثقة وتقارير عن الداخل السوري، ليتبعها قسم خاص بالمعارضة السورية والتنسيقيات بأهدافها ونشاطاتها، لتتنقل لاحقاً بين مقالات إقتصادية وحقوقية ومقالات رأي يساهم فيها الشباب السوري الذي هو زخم الثورة الأساسي ومحركها الفعّال”.
صعوبات عدة واجهها فريق عمل المجلة في خضم الأحداث السورية، لاسيما في التواصل في ما بينهم وبين الناشطين الآخرين.
ويشدد الرفاعي على النجاح الذي حققته المجلة من خلال انتشارها الشاسع والترحيب الذي لاقته في الإخراج والمحتوى، مشيرا إلى أنه تم إصدار ملاحق ثقافية خاصة بالمجلة وأهمها ملحق خاص بالمرأة السورية وإنجازاتها في زمن الثورة، بالإضافة إلى نشرة سنوية بالتعاون مع معهد الوارف للدراسات الإنسانية في واشنطن.
“عنب بلدي”.. تأسست تحت النار
“عنب بلدي”.. جريدة من بين عدة جرائد ولدت من رحم الثورة وتحت النار. قام أحد المحررين المؤسسين في الجريدة محمد الداراني في أواخر العام 2011 بتشكيل فريق عمل يضم مجموعة من نخبة شباب مدينة داريا في ريف دمشق من حملة الشهادات الأكاديمية المختلفة ومن ذوي الكفاءات، وإن لم يكن لأحدهم سابق خبرة في مجال الصحافة والإعلام. وأسسوا مجموعات سرية على بعض مواقع التواصل الاجتماعي وأجروا عدة اجتماعات رسموا خلالها الخطوط العامة للجريدة ووضعوا الأهداف المبدئية لتأسيس جريدة من الداخل، واختاروا اسم “عنب بلدي” لما فيه من جمالية في الشكل ورمزية في المعنى، خصوصاً وأن داريا تشتهر بإنتاج العنب بأشكاله المتنوعة.
ويقول الداراني في حديث إلى مركز الدوحة إن العدد “صفر” صدر بعد عناء طويل صباح يوم الأحد 19 يناير/ كانون الثاني 2012. وتمت طباعة قرابة مئة نسخة ملونة لتستمر بعدها الجريدة بالصدور الأسبوعي من دون توقف منذ ذلك اليوم. في البداية كان هدفنا الوصول إلى جمهور الشارع الثائر ضمن منطقة جغرافية محددة هي مدينة داريا، لكن مع صدور الأعداد وجدنا تشجيعا من قبل القراء ما جعل أنظارنا تتجه إلى أفق أعلى هو أفق الوطن السوري بكل أطيافه وطوائفه. فبدأنا بتنويع مقالاتنا كما استقطبنا بعض الكتاب المعروفين من معارضين وإعلاميين.
الصعوبات التي واجهت فريق الجريدة كانت أكبر من أن تحتمل تحت وطأة الضغط الأمني والملاحقة والتهديد بالاعتقال والتعذيب والقتل. ويضيف الداراني: “لكن شيئًا أقوى من كل تلك المخاوف كان يدفعنا إلى الاستمرار في إصدار الجريدة التي رأينا فيها تحديا لذواتنا أولا ولنظام الاستبداد ثانيا. ومن الصعوبات التي كانت ولا زالت تواجهنا هي الحصار الأمني الذي يعدم قدرتنا – في الغالب – على التحرك بحرية والتواصل المباشر في ما بيننا لتبادل الآراء والبحث في المحتوى والشكل لاسيما بين المخرج ورئيس التحرير وبقية المحررين، ما اضطرنا الى التواصل افتراضيا عبر برامج المحادثة والرسائل الإلكترونية التي تجعل العمل أكثر صعوبة وأقل فاعلية. أضف إلى ما تقدم صعوبات في الطباعة والتوزيع، اذ تتم الطباعة في أماكن بعيدة جدا من أماكن التوزيع، ونقل الأعداد في المناطق تقابله صعوبة بالغة مع وجود الحواجز الأمنية على مداخل المدن والبلدات وفي شوارعها، حتى أن عملية التوزيع نفسها تكاد تكون مغامرة خطيرة لأنها تتم خلسة من خلال إلقاء الجرائد من فوق الجدران على الشرفات وتحت واجهات المحلات وأبواب المنازل”.
“سوريتنا”.. تزهر حرية
فكرة تأسيس جريدة “سوريتنا” كانت بسيطة جدا. انطلقت من حي دمشقي.. من بيت صغير.. من اجتماع سري. ولم يكن هناك حاجة شوى إلى عدد من الورق.. كمبيوتر محمول.. طابعة صغيرة.. ساهم الأصدقاء بالمساهمة في شرائها. كان الجميع يشعر بالاختناق وبالحاجة الملحة للكلام والتعبير وخاصة مع بدايات الثورة.
ويشير خالد كنفاتي المحرر المؤسس في جريدة “سوريتنا” إن “الجريدة توسعت يوماً بعد يوم، وتم تطوير بعض أقسامها لتغطي ليس واقع الثورة فحسب، بل ماضي ومستقبل سوريا أيضاً. فهي إذا ليست مشروعاً موقتاً، ولكنها بذرة لشجرة ستزهر فكراً وحرية تحتاجهما سوريا الجديدة بشكل ملح”.
ويصف كنفاتي الاجتماع الأول الذي عقد في أحد البيوت الصغيرة في حي دمشقي قديم. ويقول: “لم يكن هناك تعمد في الاختيار. من يريد الكلام بحرية في سوريا عليه أن يبحث عن أضيق وأبعد الأماكن خوفاً من بطش وهمجية أمن النظام الذي لا يميز بين الكلمة والرصاصة. وفي هذا الأمر مفارقة غريبة، فالمعتاد أن هدف تأسيس جريدة هو النشر والتوزيع لا الاختباء والتواري. لكن قدرنا كسوريين قلب كل المفاهيم التي يعيشها البشر الطبيعيون في أمكنة أخرى من هذا العالم”.