عمر قدور – الحياة
كي تكتمل مأساة السوريين، بات النقاش الدولي حولها شبه مقتصر على جلسات لمجلس الأمن، يُمنح فيه مندوبا روسيا والنظام حرية التحدث ببذاءة، كمقايضة مع إدانات غربية لا تتجاوز التنصل من المسؤولية الأخلاقية. هكذا، لا يكون من شأن لجثث أطفال مدرسة حاس في المجزرة الأخيرة سوى كونها مادة لتكرار الجدل الدولي الممجوج. لكن الأخير يبقى على رغم تكراره متحلياً بقدرته على التأثير، فتكرار الإهانة الجماعية المشتركة يجعلها موغلة في الأعماق، ويُرجّح أن يجعلها غير قابلة للشفاء.
قتل الأطفال على باب مدرستهم ليس جديداً، وفي ذمة النظام وحلفائه نحو 3500 مدرسة دُمّرت وهي فارغة أو أثناء وجود التلاميذ فيها، ولكن مثلما يزيد تكرار الإهانة الدولية (المتلطية وراء العجز) حجم الحقد، فتكرار المجازر يفاقم الألم والحقد. ليست مرات الاستهداف هي الكثيرة فقط، وإنما النقاش الدولي في ما هو مسموح من طرق القتل العشوائي وما هو ممنوع، ما يجعل المسألة برمتها تتعدى موضوع الحرب بكل ضوابطها وفق القانون الدولي. نحن، على نحو أكثر تحديداً، ضحايا حرب يلتبس فيها السلوك الدولي بسلوك القاتل في شكل يندر مثيله. حتى الصمت الدولي على جرائم إسرائيل لا يقدم معياراً لحالتنا، لأن القاتل الإسرائيلي لم يخرق قوانين الحرب إلى هذه الدرجة، كماً ونوعاً.
لم يحدث في التاريخ المعاصر أن عانى ملايين من التجويع، ولم يحدث هذا الإقرار الدولي بسلاح التجويع ومن ثم التفاوض حوله، بل حول تفاصيل ما يجب إدخاله لسد رمق المدنيين المحاصرين، ولوقت قصير في الحالات القليلة التي نجح فيها التفاوض. ولم يحدث في التاريخ المعاصر أن يُضطر مجلس الأمن إلى مناقشة الحد المسموح به من جرائم الحرب، واعتبار التقليل منها إنجازاً، مع أن التقليل منها في حالات الهدنة المحدودة كان يعِد بجرائم أفظع قبل الهدنة وبعدها. ولا ننسى أن الأمم المتحدة رعت عمليات تهجير مدنيين تحت طائلة التجويع، والإدارة الأميركية ذاتها ضغطت على المعارضة للتنازل سياسياً تحت طائلة سلاح القصف والحصار والتجويع من جانب النظام وحلفائه.
كل هذه السياسات يعني تحويل السوريين كائنات بيولوجيةً محضة، هدفها البقاء على قيد الحياة وسد الرمق، لا غير. وهذه هي سياسة النظام قبل الثورة، إذ كان يعتمد تصوير بقاء السوريين على قيد الحياة، بالحد الأدنى من الخدمات التي احتكرها، إنجازاً يقايض به على حرياتهم، وفي مقدمها الحريات السياسية وحرية الرأي. سياسة التجويع، عقاباً على العصيان، امتداد للمقايضة القسرية السابقة، فعندما قرر السوريون التحول إلى كائنات فوق بيولوجية، عمد النظام إلى محاولة إعادتهم إلى الحظيرة البيولوجية السابقة، وبالتأكيد إلى ما دونها بعمليات الإبادة.
في الجوهر، لا جديد في سلوك النظام سوى التحول في مستوى العنف والقسر. الجديد عند السوريين هو الخيبة المتكررة، فعملية التحول إلى الوجود السياسي رافقها أملٌ بأن يصبحوا جزءاً من العالم، ولم يتوقعوا في أكثر الاحتمالات بؤساً أن يتواطأ على محاولة إعادتهم إلى عهدهم السابق. المنهجية المعتمدة في «تخفيض مستوى العنف»، وإيصال مساعدات غذائية محدودة جداً إلى المحاصرين، لا تعني سوى التعامل مع السوريين في حد وجودهم الأدنى. يعزز صدقية هذا الاتهام مستوى التعامل الأممي مع نازحي المخيمات في بعض دول الجوار، حيث لا تقدّم المنظمات الدولية سوى ما يقارب حد الكفاف، مع حد أقل من الخدمات التعليمية والصحية. وإذا كان بعض العالم عاجزاً بحق عن وقف المقتلة السورية، وردع مرتكبيها، يصعب تصور العجز عن تقديم الحد اللائق إنسانياً للنازحين.
الأدهى أن يُعتبر النزوح نعمة ونجاة مما هو أسوأ في الداخل، وأن يُصوّر الوصول إلى الغرب كأنه وصول إلى النعيم، بصرف النظر عن الإجراءات المشددة الأخيرة لمنع تدفق اللاجئين. فاللاجئ المحظوظ، وفق هذا المعيار، حقق شرطه البيولوجي الكامل مع المساعدات التي توفر له شروطاً معيشية تعادل التي يحصل عليها العاطل من العمل في الغرب. في هذا «النعيم»، لا أسئلة عن الفضاء الاجتماعي والمجتمعي الذي خسره اللاجئ «المحظوظ»، ولا أسئلة عن تمزق العائلات بين عديد الدول، أو التمزق بين صغار الأسرة ذاتها وكبارها الذين سيتمثل كل جيل منهم ثقافة مختلفة يفرضها التفكير بلغتين، ما دام أفق العودة شبه منعدم.
بالطبع لا أسئلة عن الكائن الذي فقد فرصته في التحول إلى كائن اجتماعي- سياسي، وفق المفهوم الأشمل لشرط الوجود. فلاجئو الجيل الأول قلما يزاولون نشاطاً عاماً يتعلق ببلدانهم الجديدة بعد حرمانهم منه في بلدانهم الأم.
المقارنة بين السيء والأسوأ لا تتوقف عند حد، فوفقها يُحرم ضحايا الدرجة الثانية والثالثة من شرطهم الإنساني. فأولاً يُعتبر محظوظاً من نجا من الموت، وثانياً يُعتبر محظوظاً من لم يفقد عزيزاً من الدرجة الأولى، ولا حساب مطلقاً لتأثيرات العيش تحت الخطر، أو الخوف على مَن هم تحته، أو تلك التأثيرات المتأتية من سوريّة أصحابها واهتمامهم بقضيتهم الذي لم ينقطع على وجه العموم. مثل هذا «الترف» لا يبدو مباحاً، على رغم تأثيراته المستدامة في غياب العدالة، تلك التأثيرات التي تدلل على بديهية أن الإنسان ليس كائناً بيولوجياً فحسب، بما يتلوها من آثار قد يدفع العالم ثمنها وهو يعاند ما هو بديهي، وينكر من خلال ذلك أحقية السوريين بالثورة.
ظاهرياً، ربما يُسجّل بعض النجاح لهذا التواطؤ على تجريد السوريين، واختزالهم في الحد الأقصى إلى قضية شفقة خاسرة. إذ من المنطقي أيضاً أن تتضاءل آمال بعضهم وفق ظروفهم، بمن فيهم الخاضعون طوعاً أو قسراً لسيطرة النظام ويتمتعون بالأمان في مقابل التضحية بأبنائهم على الجبهات، وفي مقابل إفقارهم المستمر. غير أن النجاح الظاهري لا يعني اقتناع السوريين باستــحقاقهم أدنى شروط العيش، وإلا كانت سياسة النــــظام خلال أربعة عقود قد أثمرت ولم تحدث الثورة أساساً. ثمـــة تيــــار يتــــندر عليه السوريون يرفع أصحابه مقولة «كنا عايشين»، وهي مقولة تضمر لوم الثورة مع تواضع المتطلبات لدى بعضهم ووضـــاعتها لدى آخرين، غير أن ما فيها من تحسر على ذلك «الفردوس المفقود» يضمر استحالة عودته.