ما لا يريدُ الغرب أن يفهمه على روسيا
محمد ديرانية
“موسكو ليست معنيةً بسوريا، إلا بمقدار ما تشكّل بالنسبة لها مناسبةً لإعلان تمرّدها على الغرب، وإظهار قدرتها منذ الآن على مقاومة مخططاته، والضغط عليه، لتأكيد وجودها قوّة عظمى، واستعادة مركزها الدولي، واستعادة الاعتراف بمكانتها العالمية”.
الفكرة أعلاه مقتبسة من مقال للأستاذ برهان غليون بعنوان “انتحار الغرب في سوريا”، المقال مهمّ، وتعرّض للحسابات والاعتبارات الظاهرة والغائبة التي تحرّكُ كلًا من سياستي روسيا والغرب في سوريا، وتناولَ الغربَ في نفس الكفّة التي تناولَ فيها أمريكا، دون أن يفرّق، لكونه قد انطلق من التصنيف القطبي الذي تشاطر المعسكر الروسي والغربيّ كفتيه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
المُلفت في المقال، تركيزُه على الجانب النفسي للسياسيين، ودوره العميق في تحريك سياسات ورؤوس أموال وجيوش دول عُظمى، فروسيا بشكلٍ رئيسيّ تتخذ من سوريا بوابةً “لمناكفة” الغرب، الذي قوّض مصالح روسيا في العراق وليبيا مؤخرًا، وأفغانستان وأوروبا الشرقية سابقًا، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، الأمرُ الذي تركَ أثرًا عميقًا في الإمبراطورية الروسية التي لم يزل يتوارثُ حكمها وإدارة سياستها ذات الجيل الاشتراكي، وترى في هزائم الماضي ثأر وانتقام الحاضر.
ما تريده روسيا من سوريا، لا يخصّ معارضة قضية السوريين، على الرغم من البغض الروسي لفكر الثورات، ولا حتى قضية بقاء الأسد بصلة مباشرة، فبناء حليفٍ شريكٍ مع دولة أخرى قوية في الشرق الأوسط (مثل مصر التي شهدت علاقة دائرتها السياسية مع روسيا مؤخرًا سريان روحٍ من الاتفاق والانسجام المتبادل في العديد من المصالح)، أمرٌ أخفُّ عبئًا وحملًا من الزجّ بقطعٍ كاملةٍ من الجيش الروسي، وتحريك بوارجها، واقتصادها للمحافظة على حليفٍ مترهّلٍ قد خرجت غالب أراضي دولته من تحت سيطرته، وباتت مساحة أوراق الضغط والتأثير التي بإمكانه أن يساومَ عليها المجتمع الدولي للمحافظة على بقاء نظامه معدودة وقليلة.
ما تريدُه روسيا من عملياتها العسكرية في سوريا، مناكفة الغرب عبر البوابة السورية، وإرغامه على الخضوع للتعامُل معها ندًّا لندّ، بعيدًا عن منطق “التلميذ المشاغب” الذي تتمّ معاقبته بشكلٍ دائم كلّما خالف التعليمات.
روسيا ترى في نفسها ما لا يراه الغرب، أو يظهرُ بأنه يراه.
وتريدُ أن ترغمهم على فتح قنواتٍ من الحوار معها، حول ملفات رئيسية تخصّها، أبرزها حالة الحشد الاقتصادي والسياسي الغربي المناكف والممارس ضدّها، في كل محفل.
ولعلها وجدت في الملف السوري الضالة الأنجع في تحقيق هذه الغاية، نظرًا لما يفرضه موقعها الجغرافي من ارتباطات وملفات وتداخُلات إقليمية، أبرزها إسرائيل وتركيا والعراق، كمثلث ساخن للأحداث. بإمكان روسيا أن تحتويها كلها، وتُرغم جميع الأطراف المتأثرة بهذه الملفات على التفاهُم مع روسيا والرضوخ لشروطها.
الدوافع الروسية للتصرف بهذه الطريقة، والتي لم يفهمها الغرب، أو التي تشيرُ سياساتهم على الأقل أنّهم لم يفهموها، أو أنّهم فهموها من المرة الأولى لكنّهم يريدون بالفعل جرّ القطب الروسي إلى مزيدٍ من الاستغراق مع ردات الفعل الانفعالية في تحريك سياساته، من ثمّ استنزاف قوته واقتصاده. الشيء الغائبُ عنهم، أنّ روسيا جادّة هذه المرّة في رغبتها بالانسلاخ من دور “التلميذ المشاغب المُعاقب” على الدوام، وأنّ الملف السوري قد شكّلَ نواة جاذبة للعديد من الملفات التي لم تكن ضمن دائرة العلاقة في البداية، ولا بندًا ضمن الخطّة، الأمرُ الذي سيشعّبُ الملفات، ويهدّد سلامة المنطقة بأثرها، وسط ظروف أثبتت أنّ حدود الدول لم تعُد أدوات أمان وضمان كافية لعدم وصول الإرهاب والفوضى والتداعي البطيء إليها.
المفردة التي سقطت من الحسابات، وتم التعامل معها كقضية على هامش المؤتمرات واللقاءات الدولية، هي “معاناة السوريّين” أنفسهم، ولم يتم استدعاؤها إلا عند الحاجة.
“معاناة السوريين” هي المفردة الوحيدة التي لم تعد مهمّة، طالما أنه لا يوجد دورة انتخابية قريبة للأحزاب الحاكمة في الدول الكبرى الغربية المعنية بالقضية السورية، أو اعتبارات أخلاقية في التنافس بين الأحزاب المتنافسة على الحكم، تجعلُ من الوعد باحترام إرادة الشعوب أمام مجتمعاتهم، عامل قوّة مفيدٍ في الحملات الانتخابية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :