حنين النقري – عنب بلدي
لم يكن معظم السوريّين من محبّي التنقل والسفر يومًا، وكان مجرّد التوظيف أو الزواج من محافظة أخرى أمرًا غريبًا وغير شائع بينهم، إن لم نقل مرفوضًا، فالانتماء الحقيقيّ هو للمدينة أو للمحافظة.
لكن الحرب وأحكامها لم تبقِ لسوريٍّ مدينته، وأبناء الشعب الذي لم يعتد سوى الولادة والموت في نفس المكان وجدوا أنفسهم مشتتين فجأة في مدن لم يسمعوا بأسمائها قطّ، داخل بلاد لم يكونوا قادرين على تحديد مكانها على الخريطة، وهنا كانوا وجهًا لوجه مع مشاعر الغربة والوحدة، بعيدًا عن مجتمعٍ ألفوه ولغةٍ لا ينطقون سواها، وأصدقاء وعائلة يعيشون تجارب مماثلة في أماكن أخرى.
فكيف يتغلّب السوريّون على مشاعر الغربة في بلاد النزوح الكثيرة؟
“ضياع” في مواقع التواصل الاجتماعيّ
يصف مراد، وهو طالب هندسة إلكترون، حياته في ألمانيا بكلمة واحدة.. “ضياع”، حيث لا أهل ولا أصدقاء، ورغم أنه لم يمضِ على وجوده سنة إلا أنه يشعر بأنها أطول سنوات عمره، يقول “الوقت يمضي بطيئًا ثقيلًا هنا، لا يمكن أن تستعيض بأصدقاء جدد عن أصدقائك، وليس هناك شيء في العالم يعوّض عن لمّة الأهل، أفكّر في هذا في الليالي التي أمضيها بمفردي في غرفة باردة، الغربة قاسية جدًا، وهو ما أحاول تجاوزه بشغل نفسي طول الوقت بتعلّم اللغة لإتمام دراستي”.
“وحدها شبكة الإنترنت أنيسي”، يضيف مراد، فعبرها يتواصل مع أهله في سوريا وأصدقائه الموزّعين بين مشارق الأرض ومغاربها “أحيانًا أضيق ذرعًا، أحتاج للقاء أبعد من الشاشات ونوافذ الدردشة، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أمضي عليها ساعات طويلة”.
محاولات للاندماج في المجتمع الجديد
ماتزال رانية، وهي معلّمة سوريّة من ريف دمشق، وزوجها في “الهايم” أو “الكامب” أو مخيّم اللاجئين المؤقت في ألمانيا، انتظارًا للبتّ في قضيتهم في المحكمة ومنحهم إقامة، لكنها لا تضيّع وقتها في الانتظار وتحاول صنع شبكة علاقات مع محيطها، تقول “لا أحد يدري متى نعود، وإن كنّا سنعود أصلًا، لذا أحاول أن أتأقلم مع هذه الفكرة رغم صعوبتها، بألا أتقوقع حول نفسي، الوحدة ستزيد مشاكلي سوءًا وستعمّق إحساسي بالغربة”.
رغبة رانية بالتواصل ولغتها الإنكليزيّة القويّة جعلاها تحظى بالعديد من الصداقات من جنسيات متعددة، وهو ما بدأ يشعرها بالألفة في المخيّم رغم ظروف المعيشة السيئة فيه، تضيف رانية “أذهب لدورة تعلّم اللغة الألمانية، ودورة لتعلّم الرسم، أدعو المعلّمة إلى غرفتي وأطهو لها ولصديقاتي الطعام السوريّ، أتبادل الأحاديث مع جيراني في المخيم من مختلف الجنسيات، لدي صديقات من ألبانيا وأفغانستان وإيران والمغرب وألمانيا إضافة لصديقات من سوريا بالتأكيد، وهو ما يخفّف عبء الإحساس بالفقد والوحشة عندما أركن رأسي للوسادة في آخر النهار”.
سأشقّ طريقي بنفسي
حينما اقترب موعد انتهاء تأجيل عسكريته، لم يجد هادي، 19 عامًا من مدينة حماة، سوى تركيا وجهةً للفرار من الالتحاق بالجيش، وهكذا سافر إليها عبر حدودها البريّة “بالتهريب” ليعيش بعيدًا عن مناطق تجمّع السوريّين لكثرة التحذيرات التي وصلته، يقول هادي “اخترتُ مدينة لا يُقيم فيها الكثير من السوريّين، لأبتعد عن (وجع الراس) الذي سمعتُ عنه الكثير، وهنا كان التحدّي بأن أشق طريقي بنفسي بين أشخاص لا يعرفون من أنا ولا أعرف لغتهم”.
اختار هادي الطريق الأقصر للاندماج بالأتراك وهو العمل، يتابع “رغم عدم إلمامي باللغة إلا أنني استطعتُ تدبّر أموري كعاملٍ في قهوة شعبيّة، وهو ما سمح لي بالبدء في تعلّم مفردات اللغة، وفي تكوين علاقات بسيطة مع زملائي وزبائن القهوة”.
“يا غريب.. كُن أديب”
كانت آخر كلمات والد هادي له عند وداعه في سوريا “يا غريب كون أديب”، فأدبه هو ما سيحدد نوعيّة الأشخاص الذين سيجذبهم إليه، وهو ما لمسه هادي بنفسه، يقول “أخلاقي وأدبي هي وحدها سمعتي وأصلي، لا أحد يعرف أنني ابن عائلة جيدة هنا، ولا بدّ من العمل على تكوين سمعة واسم نظيف، وهو ما أسعى له”.
أدرك هادي فائدة نصيحة والده عندما طرق جاره التركيّ مصطفى الباب عليه ليدعوه إلى العشاء مع عائلته، يقول “كلما أرى جاري الستينيّ مصطفى عائدًا من (البازار) الأسبوعيّ أحييه وأحمل عنه الخضار وأصرّ على إيصالها لبيته في الطابق الثالث، هكذا كنتُ أفعل في سوريا ولم أبحث عن شكر لقاء هذا، لكنني فوجئت بعد أشهر من هذه المساعدات الأسبوعيّة بزيارة الجار لي ورغبته في تعريفي على عائلته، كانت من أجمل لحظات حياتي”.
لم يتوقّف الأمر هنا، إذ كان مديح الجار لهادي وأخلاقه يسبق أي محادثة تعارف له مع أحدهم، وهو ما كان له أثره في توطيد علاقاته مع الجوار، يقول “في عيد الأضحى زارني ثلاثة من جيراني وقدموا لي قطعًا من اللحم، كلما التقيتهم يسألونني عن حاجتي لشيء أو إن كان ينقصني شيء في المنزل، لغتي صارت أفضل بكثير وأستطيع تبادل الأحاديث معهم، كل هذا بدأ يخفف عني غربتي”.
“الغربة مضيّعة الأصول”
لعلّ سنّ هادي وشبابه كانا السرّ وراء سرعة انخراطه في المجتمع الجديد، وهو ما لم يقدر عليه الحاج الستينيّ أبو محمد، أحد السوريين اللاجئين إلى مدينة اسكندرون في الجنوب التركيّ، يقول “من الغوطة المحاصرة إلى اسكندرون، هكذا مرّة واحدة، بعد عمرٍ أمضيته في مدينتي وحارتي وبيتي وجدتُ نفسي في مجتمع غريبٍ تمامًا ولغة غريبة، دونما أقرباء أو معارف، أحفظ بعض الكلمات باللغة التركية لأُسلّك أموري في السوق، لكن عمري لا يسمح لي بتعلّمها وهو ما يجعلني محصورًا بمجموعة ضيّقة من العلاقات مع السوريين”.
يصعب على “أبو محمد” أن يكون مجهولًا بهذا الشكل، وهو الذي اعتاد أن يعرفه القاصي والداني في بلدته، ويضيف بأسى “قالها آباؤنا منذ سنين (الغربة مضيّعة الأصول)، فالاسم الذي لزم مني ستين عامًا لبنائه راح فجأة، أنا بالنسبة لهم لاجئ سوريّ يستحق الشفقة فقط”. يخفي الحاج غصته بلحظات صمت، ويتابع “أحاول أن أتجاوز غربتي بأن أمضي وقتي في المسجد، أقرأ القرآن وأساعد بعض الأتراك في التلاوة وتحسين مخارج الحروف، وأوصل لهم المعنى الذي أريده بلغتي المكسرة وإشارات يديّ”.
غريبةٌ في بلدي
رغم أنها لم تفارق سوريا، إلا أن غربة سميّة، ربّة منزل نازحة إلى مدينة دمشق، لا تقل عن غربة الحاج أبو محمد، تقول “شعورُ الغربة موزّع علينا جميعًا، جزءٌ من أهلي في الغوطة وجزءٌ منهم في تركيّا، أقارب زوجي موزعون ما بين الخليج وأوروبا، وأنا نازحة في مدينة أشعر بالغربة فيها كل يوم وكل ساعة”.
“الشام لم تعد نفسها، وجهها غريب وهواؤها ثقيل”، هكذا تصف سميّة دمشق، وتتساءل بحسرة “كيف يمكن أن أشعر بالراحة وأنا أسترجع كل الأدعية عند مروري على حواجز النظام خوفًا من عناصره؟ كيف أسلّم أمري للنظام الذي قتل أخي، وهجّر أهلي؟ كيف يمكن أن أشعر بأني في بلدي وأنا أسمع أصوات الطيران تقصف أهلي في الغوطة وكأنهم أعداء؟ أجريت عمليّة ولادة قيصريّة ولم يكن معي في المشفى سوى زوجي، أليست هذه غربة أيضًا؟”
ترى سميّة أنه لا فارق بين غربتها وبين غربة اللاجئين في أوروبا أبدًا “مثلي مثل أي مهاجر في أوروبا، لا جيران يزورونني، ولا أهل يطرقون عليّ باب العيد، على الأقل اللاجئ في أوروبا لا يشعر بالخوف في كل لحظة مثلي”.
تستدرك سميّة بأن من حولها ينطقون بالعربيّة على الأقل، لكنها تعود لتقول “حتى لو كنا نتكلم نفس اللغة، إلا أنه لا شيء مشترك فيها إلا الحروف، مفرداتها ومعانيها لا تشبه بعضها أبدًا”.