عنب بلدي – العدد 78 – الأحد 18-8-2013
كبر أحمد فجأة دونما صراع مع سنوات طفولته التي ذهبت مسرعة دونما عودة، لم يعد يقف أمام المرآة ساعات طويلة ليصفّف شعره، و «يبخبخ» ما تيّسر له من عطور تجذب الأنظار إليه، فيكاد يذهب بالأبصار لحسن هيئته، ولم يعد «يسترق النظر من خلف أبواب المدارس ينتظر الفرج حين خروج البنات، ليلاحق تلك، ويتوسل إلى أخرى، ويغازل الثالثة، كما لم يعد يخطر في باله أن يزور وبشكل متكرر -كما في عادته- صالونات الحلاقة وعيادات الجلدية، ولم يعد يصرخ في وجه أمه مصرًّا على طلباته التي لا تُحتمل، ورافضًا لأوامرها، متمرّدًا على نظام البيت، متساهلًا ومتجاهلًا في كثير من الأحيان لظروف الحياة، متسببًا وبشكل شبه دائم في مشكلات لا تنتهي، يرى في الانتقاد إهانة لشخصيته وتحكّمًا فيها، لم يعد يطلب ذاك المصروف الكبير المهدور هنا وهناك، لم يعد يدمن على الأفلام الأجنبية التي ترضي غرائزه الهائجة في هذه الفترة نحو العلاقات الجنسية في مرحلة شبابه المبكّر، ولم تعد جلسات الصداقة عبارة عن أحاديث البنات والجنس وكرة القدم وآخر الصرعات، ولم يعد مثله الأعلى (ميسي) أو نجمًا سينمائيًا، فقد مزّق صور أليسا ونانسي التي تزين جدران غرفته.
واختار أحمد طريقه، ليصرخ ويهتف للحرية، واقفًا بكل ما أوتي من قوة وحكمة في وجه اليد الوحشية التي قتلت وسفكت وأجرمت بحق الأطفال والنساء والشباب، فقد فترت معه كل نظريات المراهقة، واختصرت الثورة جهود علماء النفس والاجتماع باحثين عن طرق فعالة لتغيير سلوكيات المراهقين الانفعالية والعصبية وتمرّدهم المعتاد على ذويهم.
إنها (القضيّة) التي ملأت الفراغ وأشبعت الغرائز، وجعلت للحياة قيمة في حياة المراهق، فغيّرت نظرته إلى ذاته، وإلى أسلوب حياته، وأصبح ملتزمًا يتابع الأخبار بشغف، يزور المريض ويسأل عن أقاربه، ويبحث عن مساعدة يقدمها هنا أوهناك، يسعف الجرحى والمصابين ويعودهم حتى يتماثلون للشفاء ملبيًا كل مستلزماتهم وأسرهم، يتفقد أحوال أهالي المعتقلين ويطيّب خاطرهم بكلمات ينبض بها فؤاده الصادق قبل لسانه، ويهمس في آذان أبنائهم بأن الفرج قريب، وبأن حرية آبائهم أمانة في أعناقنا ولن نتنازل عنها ما حيينا، ثم تجده يحمل الشهيد على الأكف والأكتاف، يحفر له قبرًا ليواريه في تراب وطنه الغالي، ثم يصلي على قبره بين رصاصات وقذائف تسقط هنا وهناك، ليعود في آخر المطاف إلى ذوي الشهيد مهنئًا إياهم بعظيم ما نال ابنهم، وبالجنة التي تنتظرهم وشهيدهم، ثم يقتطع من مصروفه اليومي ولو حتى لقيمات ليسد بها رمق النازحين والمبعدين عن ديارهم، يواسي ذاك، ويمسح دمعة هذا، ويمد يد العون لآخر، ويجلس إلى كبيرهم ليسمع منه العبر والقصص، علّه يستجلي منها حكمة، ويداعب صغيرهم.
لقد امتلك أحمد القضية… أراد أن يكون رجلًا، فكان له ذلك وبكل ما تعنيه الكلمة، لنسجّل للحرب نقطة إيجابية، إذ تقدّم خدمة جليلة للبلد «المطحون برحاها» دونما دراية، إنها تغرس في نفوس المواطنين بذرة خير ستنمو وتكبر، لتصبح قوة عظيمة تمتلك في داخلها بذرة فناء الطغاة، إنها الدافع الذي يبعث في النفوس روحًا جديدة مبدعة، تبتكر طاقات وأفكار جديدة للعمل الدؤوب المتجدد المرتبط بروح قوية وأمل بالله لا ينفك يوجهها إلى جادة الصواب.
لقد أنتجت هذه المرحلة الصعبة من حياتنا طرقًا وحلولًا لكثير من المشكلات المستعصية، إذ أكدت أنه يمكن للمراهقين أن يكونوا فاعلين في بيوتهم، وقادرين على الاعتماد على أنفسهم وتحمّل المسؤولية، فجلّ ما يحتاجه المراهق «قضية جوهرية تملأ فراغه»، وتخفف من التوتر الذي يسببه التغير الفيزيولوجي في جسده، ولربما حريّ بنا ألا نقف فقط عند الفكرة التي تقول أن هذه الثورة لإسقاط النظام الأسدي، إنما هي اختبار من الله عز وجل ليمحص الذين أمنوا، فالله عز وجل عليم بالسر وأخفى، ويبقى من حق الإنسان على نفسه أن يعلم ما هو أخفى من السر ذاته، وأن يعرف حقيقة نفسه ومكنوناتها وطاقاتها، ليستثمرها في كل مشروع تغيير إيجابي يهدف إلى بنائها.
والطفل أحمد يكبر فينا من جديد، جئناكِ جئناكِ أيّتها القضية!…