عنب بلدي – العدد 78 – الأحد 18-8-2013
عتيق – حمص
في ثقافتنا المعاشة، والموروثة منذ عشرات -إن لم يكن مئات- السنين، مفردات ثقافيّة تضعف البنية الفكريّة للمجتمع، وتجعله هدفًا سهلًا لعمليات «النخر» والأمراض المختلفة التي نعاني منها، كالاستبداد، الفقر، الجهل، وغيرها.
وواحدة من أخطر هذه المفردات: فكرة انتظار الحلّ القادم من السماء، وكالعادة فلا تعدم أي فكرة من مسانيد دينيّة، تعطيها مشروعيّة، وتفتح لها عقول السامعين.
أدنى مستويات هذه المفردة، تكمن في فكرة «انتظار الفرج»، الذي هو «عبادة» حسب أحد المرويات (الضعيفة بالتأكيد)، والمشكلة بالتأكيد هي مع «الانتظار» الذي لن يغيّر شيئًا من واقع الحياة، ولن يحلّ شيئًا من مشاكلها، بل لا يعدو عن أن يزيد من سوء الوضع والأحوال.
هذا الانتظار يتخذ مواضيع شتى، لعل أشهرها انتظار «المهديّ» وهو «رجلٌ صالح، يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا وظلمًا، تنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعمها قط، تخرج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطرها، ويعطى المال بغير عدّ».
وواضح تمامًا أن من رسم هذه الصورة، شخصٌ حالم، ينتظر من يحقّق له صورة هذه المدينة الفاضلة، دون كدّ ولا جهدّ، فما هو إلا رجلٌ واحد فقط، يأتي حتى يغيّر حالنا إلى أحسن حال.
وقد رفض الكثير من علماء الإسلام المجددين فكرة المهديّ المنتظر، لما تتضمنه من تواكل وقعود عن العمل، واستقالة للفعل الحضاري، كالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الله السمان، والشيخ محمد الغزاليّ، والشيخ عدنان إبراهيم وآخرون.
وحتى ما نظنّ أنه واحدة من أكثر الاعتقادات الراسخة في العقيدة الإسلاميّة، وهي فكرة أن عيسى عليه السلام رفع بجسده وروحه إلى السماء وأنّه عائد في آخر الزمان، هذه العقيدة رفضها وأنكرها علماء وأئمة كثر، منهم الشيخ محمد عبدو، والشيخ محمد رشيد رضا، وشيخا الأزهر مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، والمفسّر الكبير محمد أبو زهرة، والمؤرخ الإسلامي أحمد شلبي، والدكتور حسن الترابيّ.. وغيرهم كثر، ولهم في ذلك تأصيل وتفصيل.
والشاهد هنا، ليس إنكار معتقد نزول المسيح، بقدر إفساح المجال للعقل العربيّ، بأن يتحرّر من ثقل فكرة الانتظار نفسها.
تجلٍ آخر لفكرة الحلّ القادم من السماء وهو إيماننا بالمعجزات، وأن انتصار الرسل وتمكنهم في الأرض لم يكن إلا نتيجةً لذلك، فنحن ننسى (مثلًا) كلّ الجهد الذي بذله المسلمون طيلة ثلاثة عشر عامًا، في أطول كفاح سلميّ في مكة، ونبتهل إلى الله أن ينزل جنوده من الملائكة ليؤيدنا بنصرٍ من عنده كما فعل مع المسلمين في بدر، كما ننسى كل متاعب الجهاد السلميّ والمتاعب والصعاب التي تحداها سيدنا موسى ومن معه في مواجهة فرعون، لكن نستحضر معجزة انفلاق البحر، ونجاته ومن معه من بطش فرعون، وإغراق هذا الأخير، ونبتهل إلى الله، أن ينصرنا كما نصر موسى!
وبغض النظر عن أنه لا معجزات اليوم، فإن اختصار كفاح الأنبياء وأقوامهم معهم في موقفٍ واحد، ثم بناء رجائنا وأملنا عليها لهو أمرٌ طفوليّ.
وسواء أكان الحديث عن ثورة ضدّ الاستبداد، أو عن نجاحٍ دراسيّ أو ماليّ، فإننا نأمل بالمعجزة، أكثر مما نأمل من جهدنا!
وهذا كثيرًا ما ينعكس في أحاديثنا اليوميّة، التي تكمن في تفاصيل صياغتها، أفكار مضمرة، تحرّك سلوكياتنا، كالدعاء الشهير على ألسنة الناس اليوم «الله يختار الخير»، أو «الله يكتب يلي فيه خير»، و “الله يقدّم الي فيه النصيب».. وهكذا فإن الفعل، الاختيار، الكتابة، الإقدام، هي أفعالٌ سيقوم بها الله لا نحن، فنحن لسنا مكلفون بإعمال عقولنا لمعرفة أين يكمن الخير!
لم نخلق كي تنجز لنا السماء مرادنا، «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم»، نحن نعمل والله يرى، وليس العكس كما تنبئ أفعالنا اليوم.