حنين النقري – دوما
على مجتمعات تعيش زخمًا اتصالاتيًا ومعلوماتيًّا، وتستهلكها كما كل المناطق الأخرى، فرض النظام حصاره الاتصالاتيّ والمعلوماتيّ التام منذ أيام الثورة الأولى. مدينة دوما مثلًا كانت أول مدينة في سوريا تشهد قطع الاتصالات في الأول من نيسان 2011، ليغدو هذا ديدنه الأسبوعيّ في أيام الجمعة، ثم أضحى القطع يطول أكثر فأكثر، حتى انطبق عليه لفظ «حصار»، عمره في الغوطة الشرقيّة اليوم ما يزيد على الشهور العشرة بشكل متواصل….
للأمر بعد إعلاميّ هامّ لا يخفى لتغييب المناطق المحررة عن الساحات الإعلامية، وعدم السماح لتجربتها في الحياة والإدارة بالنشر في وسائل الاعلام، لكنّي أود التركيز على البعد الاجتماعيّ له.. البعد الاجتماعيّ لزخم الاتصالات بداية، ثم انقطاعها وحصارها بشكل تامّ.
بعد أن دخلت الاتصالات الأرضية والخلوية والشبكية كل بيت تقريبًا، وروّج لها التلفاز والمجتمع والموضة والاتيكيت على أنها حاجة، بل ضرورة وأولوية في حياة «الإنسان» تمامًا كما الطعام والشراب والمأوى واللباس، بل وباتت وسائلها وأدواتها من مظاهر الترف والتباهي في الجلسات، تعبر عن المستوى الاجتماعيّ لصاحبها -وعن قيمته أحيانًا-،» قل لي نوع هاتفك النقّال أقل لك من أنت!». في مجتمع بات الفرد فيه يضطرب إن نسي هاتفه المحمول في بيته طيلة نهاره أكثر من اضطرابه إن نسي محفظة نقوده مثلًا.
لم تعد الاتصالات مجرّد حاجة، بل هيمنت حتى باتت جزءًا من الإنسان وعاداته ومصطلحاته، وبات السؤال المشروع لنا، هل يمكنك أن تحيا من دون موبايل؟ كيف كانت حياتنا من دونه؟
واليوم، ومنذ ما يقارب العام الكامل، لا اتصالات بشكل نظاميّ، لا هواتف ترنّ، لا أجهزة نقّال تتصدر أيدي الأصدقاء والأقارب في الجلسات، قد تتمكن من استخدام بعض الأجهزة المعينة لك للاتصال، لكنّ الزخم، الاستهلاك، الضجيج الاتصالاتيّ، كل ذلك أضحى ماضٍ. تحتاج أن «تتصل» بأحدهم؟ وسيلتك للاتصال به، هي سيرك إليه، اذهب لمكان عمله، بيته -تمامًا كحالنا قبل الموبايل- اسأل عنه، إن وجدته فالحظ حليفك، وإن لم تجده، انتظره، ابحث عنه، ثم انتظره، وانتبه للهفتك إذ تلقاه بعدها وتقول «وأخيرًا، الحمد لله يلي شفتك.. في موضوع ضروري».. لهفتك هذه التي ما كنت تشعر بها بالضغط على أرقام جهازك النقال، والسؤال عنه حيث هو، ولو كان في مدينة أخرى، دون أدنى جهد أو تعب.
لهفتك ستكون أكبر، عندما تلتقي مصادفة في شارع فرعي ذات ظهيرة بصديق فرّقتك عنه الأيام والنزوح وما تلاه، لم تفلح الاتصالات بجمعكما معًا، ها هي الأقدار ساقتكم بأقدامكم لتلتقيا.
لا أدافع عن قطع الاتصالات، لا أنتقد التكنولوجيا التي صممت لخدمتنا ولتسهل لنا مهامنا وتوفّر علينا وقتنا، لكني أنتقد هذا «الفجع» الاستهلاكي الذي كان منّا، أنتقد تحوّل حاجات الإنسان وزيادتها بدل أن نسخر التقنية لتعيننا على التفرغ لمهامنا الأساسيّة. أنتقد العجلة التي أوقعتنا بها حمّى ثورة الاتصال، «بدي ياك بسرعة» «لازم نحكي هلأ» «في موضوع ما بيتأجل» «بسرعة بسرعة بسرعة، عم انتظرك»
هل كانت مواضيعنا بهذه الأهمية والإلحاح حقّا؟ اليوم يتراءى لي أنها جميعا تتحمل أن تنتظر..
إننا عشنا حياتنا بتعجّل لا داعي له، تعلّقنا بأشياء كان هدفها خدمتنا وباتت معيقة لنا، اليوم يبدو لي كم أفقدتنا وسائل الاتصال من متابعة جمعات عائلية جميلة بسبب اتصال أحدهم، كم قطعت عليك من لحظات تأملك وخلوتك بنفسك، برنين هاتف لا يعرف الراحة، ولا تعرف بسببه الراحة
كم فقدت الأمور رونقها، عندما بات بإمكانك الوصول لمن تحب وقت تحبّ، ولم تدر للقلق عليه معنى، ولم تدر معنى دعاء يتردد «يارب يكون بخير».
قد يكون جميلًا أن تجد من تريده عندما تريده، لكن الأجمل أن تبحث عنه، وتراه، وتتلهف لرؤيته، عندها سيغدو لحديثك معنى أجمل، وعمقًا أهم، والأهم أنك لن تبذل هذا الجهد إن لم يكن الموضوع لا يحتمل التأجيل حقّا.
هناك «فجع» للتقانة والمعلومات والاتصالات، قطع هذه الموارد ليس الحلّ، لحاجتنا لها، الحل هو بإعادة نظرنا بجدية حول طرق استخدامنا لها، ترشيد استخدامها حتى لا تتحول حياتنا إلى «آلو» «مسنجر» «فيسبوك» «فايبر».. وننسى جمال اللقاء واللمة.