تقضي مبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، بتسهيل خروج مقاتلي جبهة «فتح الشام»، «النصرة» سابقاً، من شرق مدينة حلب إلى شمال البلاد، لسحب ذريعة استمرار القصف والأعمال القتالية، بما يجدد الهدنة ويمكّن قوافل الإغاثة من الوصول إلى المتضررين والمحاصرين، والأهم أن موسكو التقطت المبادرة كأنها طوق نجاة لكسر الاستعصاء العسكري القائم، فأعلنت دعمها وأبدت الاستعداد لإقناع النظام السوري بها، وضمان خروج مقاتلي فتح الشام من المدينة مع أسلحتهم، شريطة أن تعلن فصائل المعارضة التي ستبقى في أحياء حلب الشرقية التزامها بالانفصال النهائي عنهم، وتسجيل ذلك على الورق! وزاد المبادرة اندفاعاً، توافق الرئيسين الروسي والتركي على ضرورة تنفيذها، يحدوه إعلان هدنة موقتة من جانب موسكو وتشديد ضغط أنقرة على مسلّحي النصرة للانسحاب من حلب.
وبينما أثنت هيئة التنسيق المعارضة في بيان مكتبها التنفيذي، على المبادرة واعتبرتها بارقة أمل جديدة لإنقاذ حلب، ودعت الفصائل المسلحة المؤمنة بالحل السياسي لتنفيذها حقناً للدماء، لم يتأخر الائتلاف المعارض عن رفضها، وطالب بعض قادته بإقالة دي ميستورا الذي يحمّل الضحية المسؤولية وليس الجلاد، واعتبروا أن غاية المبادرة هي تفريغ حلب من حماتها حيث الجزء الأكبر من مقاتلي فتح الشام هم من أهالي المدينة ويدافعون عن ذويهم وأبنائهم، في حين وجد آخرون المبادرة مجرد خدعة ومناورة غرضها خلق الشروخ وتفكيك القوى المناهضة للحملة العسكرية على حلب تسهيلاً لضرب من تبقى من فصائل الجيش الحر والاستيلاء على المدينة كاملة.
وبعيداً من الفضاء السياسي المعارض وتأثيره المحدود في مواقف الجماعات المسلحة، لا تزال هذه الأخيرة تتمسك برفض المبادرة، بل وسارعت الى إنشاء غرفة عمليات واحدة مع فتح الشام كإشارة الى تضامنها ومنع استفراد أي فصيل منها، معلنة تعجيل التحضير لمعركة واسعة تفك الحصار المفروض! لكن الحقيقة، أن موقف أنقرة الجديد أضعفها وأربكها وهي العارفة بوزن أردوغان وتأثيره، وبأن معاندته ستفقدها الدعم اللوجستي، لجهة العتاد والسلاح، العابر للحدود من تركيا، وربما تتركها وحيدة في مواجهة آلة فتك وتنكيل لا ترحم، فكيف الحال وهي تلمس تراجع قدرة الحاضنة الشعبية على تحمل المزيد من المعاناة نتيجة شدة القصف ووحشيته وانعدام أي أفق للخلاص، لتبدو محرجة أمام أصوات منكوبة تطالب بإخراج مقاتلي فتح الشام من المدينة وسحب ذريعة استمرار القصف العشوائي.
ربما تنجح مبادرة دي ميستورا في وقف العنف وإنقاذ حلب موقتاً من استمرار القصف والتدمير ربطاً بتقدم محادثات بين خبراء عسكريين وديبلوماسيين في جنيف لإخراج عناصر فتح الشام، لكن يبقى مصير المدينة ومسار الصراع فيها، رهناً بعوامل عدة.
أولاً، صدقية موسكو في الفصل بين المعارضة المعتدلة والإرهابيين، وتالياً جديتها في التعاطي مع المبادرة واحترام الهدنة مع باقي الفصائل العسكرية التي توصف بالاعتدال، واستدراكاً حقيقة ما تبيته من تدخلها العسكري، هل تستمر في إنقاذ السلطة القائمة والدولة الشمولية بلغة الحديد والنار، ما يعني مزيداً من التصعيد والخوض في مستنقع حرب أهلية مديدة، أم تتجه، كما يأمل بعض المعارضين، الى تقدير الأسباب السياسية لما يجري وحقيقة أن المزيد من العنف والقمع لن يأتيا بنتيجة، وأن تفاقم الصراع السوري والانقسامات المجتمعية ليسا سوى رد فعل على احتكار السلطة وظواهر القهر والاستبداد والفساد والتمييز؟
ثانياً، درجة التباين بين الحسابات الروسية ومصالح النظامين السوري والإيراني، ما يرجح الإعاقة والتعطيل إن شعر الأخيران بأن مسار تنفيذ المبادرة وتداعياتها لا تلتقي مع مخططاتهما، بما في ذلك افتعال أحداث وخلق ذرائع تسوغ خرق الهدنة وتأجيج المعارك مجدداً للاستفراد بمن تبقى من المعارضة المسلحة.
ثالثاً، الدور المحتمل أن تلعبه الدول الغربية، إن أجبرها تضرر مصالحها من تفرد الكرملين بالمصير السوري، على التخلّي عن سلوك المتفرج الذي أدمنته تجاه مأساتنا الإنسانية، من دون أن نغفل ما تخفيه درجة التوافق بين موسكو وأنقرة، من تناغم متبادل في استمرار التهدئة، وربما رسم مستقبل حلب.
مكره أخاك لا بطل، هو واقع الفصائل المعارضة في حلب التي خسرت زمام المبادرة، نتيجة التعقيدات الإقليمية والعالمية الراهنة والعداء العام والمستحكم لجبهة فتح الشام، ما يطرح على المعارضة السياسية سؤالاً مشروعاً، هل تتجرأ اليوم على التبرؤ من الجبهة كنقطة انطلاق لحماية الفصائل المعتدلة وتمتين الحاضنة الشعبية وتالياً تصويب مسار الصراع؟ أم تستمر في تغطيتها، كما حصل عندما أدرجت أميركياً في قائمة الإرهاب، وتشجيع التعاون معها في العمليات الحربية بحجة أولوية إسقاط النظام، من دون اعتبار للنتائج المريرة الناجمة عن ذلك، إن لجهة تنامي الشك والارتياب الغربيين في موقفها من الإرهاب الإسلاموي، وإن لجهة إضعاف الاصطفافات المناهضة للنظام والمؤيدة للتغيير، مع نجاح التطرف الجهادي في دفع الصراع السياسي نحو أبعاد طائفية ومذهبية بغيضة، دمرت معنى الثورة وآمال الناس في الحرية والكرامة؟!.
واستدراكاً، هل تتمسك المعارضة بأولوية وقف العنف كعتبة لانطلاق المعالجة السياسية؟ أم تضمر رفضاً لأي مسعى يوقف الحرب والقتال، وتستمر في مطالبتها بسلاح متطور لتمكين الجماعات المقاتلة، من دون حساب للتكلفة والثمن، وبأن هذا الخيار هو عنوان لتسعير الحرب الداخلية وتغذية جحيم الفتك والتدمير، حتى لو سوغت الأمر على أنه الرد الطبيعي على عنف مفرط ومنفلت لم يتخل عنه النظام لحظة واحدة، وحتى لو ادعت بأن استجرار السلاح غرضه تكتيكي لتعديل توازنات القوى من أجل إجبار السلطة وحلفائها على التسليم بالحلول السياسية.
صحيح أن التوغل المريع في العنف يضيق هامش القراءة الموضوعية للأحداث، ويستحضر الانفعالات والرغبات والتبسيط، لكن الصحيح أيضاً أن فظاعة ما يحصل في حلب أثار نقاطاً إشكالية لا مناص من معالجتها، كي لا تتراكم الأخطاء والعثرات، وكي تخفف المعاناة والخسائر ونوازع اليأس والإحباط .