القصة كما هو معلوم بدأت باتهام السوريين بالإكثار من سب الذات الإلهية، ومن ثم ورود آية في رؤيا للمحيسني تنص على أن القصف الوحشي الذي يتعرضون له هو عقاب رباني على فعلتهم تلك. تراجعُ المحيسني لا يحل معضلة الرؤيا التي ينسب فيها الآية إلى شريكه فيها “أحد طلاب العلم”، وإن تنصل منها بالقول أن الرؤى في الإسلام لا يُستند عليها في حكم. فهو لم يتراجع عن فحوى الرؤيا الذي يتضمن تأليف آية قرآنية، على ما في هذا الزعم من إشكالات فقهية، وهو لا يتراجع عن مقولة العقاب الرباني بوضوح، ولا نعلم ما إذا كان إقلاع السوريين عن سب الذات الإلهية “بحسب أقواله الجديدة” يجبُّ ما قبله، ويعفيهم من نذيره.
لكن أغرب ما في الأمر تلك الاحتجاجات الخجولة على أقوال المحيسني الأولى، من قبل قلة من رجال الدين، مع اعتماد رد شبه مشترك فحواه العتب عليه لأنه يبالغ في وصف ظاهرة الشتم، من دون توقف لائق عند السياق المتكامل لما اقترفه صاحب الاتهام. فالأهم، كما ينبغي أن يكون، ليس الدفاع عن السوريين بالتقليل من حجم الظاهرة التي يدعي المحيسني وجودها، دون مؤشرات إحصائية يمتلكها هو أو من يقلّلون من وجودها. المصيبة هي في القول أن القصف الوحشي هو عقاب جماعي على تلك الظاهرة، فهو يقرر نوع العقاب الرباني، ولا يتورع عن إلصاق تهمة العقاب الجماعي بالله، مع علمه بالعديد من الآيات القرآنية التي تؤكد على أن المسؤولية شخصية في الإسلام، فضلاً عن ضحايا القصف من أطفال لم يبلغوا سن الكلام، ولا ندري إن كان محتماً لهم سب الذات الإلهية بعد بلوغه.
بحسب منطق المحيسني هذا، لا يعدو الطيران الروسي وطيران النظام كونهما أداة لتحقيق المشيئة الإلهية، ولعل طاغية مثل بشار يسعده أن يتبرع “عدو” بتبرئته من دماء المدنيين، وأن يلتحق تالياً بداعمه الأقوى بوتين الذي يُنسب إليه أيضاً القول بأنه ينفذ المشيئة “بإرسال الإرهابيين المتعطشين إلى الموت” إلى حتفهم. لا أبرياء تحت القصف، بما أنهم متهمون بسب الذات الإلهية، مثلما لا أبرياء تحته لأنهم متهمون باحتضان “الإرهابيين”؛ هكذا يتفق من هم أعداء نظرياً على تجريم الضحايا أنفسهم. المسألة لا تتعلق بإنزال عقوبة الموت فحسب فالطرفان، كلّ منهما من موقعه، يرى انحرافاً في السوريين لا يمكن إصلاحه إلا بهذه الوحشية، مع إنكارها من قِبَل الأول، وتجرؤ الثاني على نسبها إلى مشيئة الله.
المصيبة تتفاقم مع أولئك المدافعين عن خطيئة المحيسني، ولنا أن نتخيل كيف ستكون غيرتهم على الدين لو ادعى أيٌّ كان رؤيا تتضمن آية قرآنية جديدة، منسوجة على المنوال القرآني نفسه، وفيها افتراء على الذات الإلهية. لكن، كما نعلم، تظهر هذه الحمية فقط عندما تُعتبر الإساءة قادمة من خارج وسط الإسلاميين، وعلى رغم الاختلافات التي تصل أحياناً بين الإسلاميين حد التكفير إلا أنها جميعاً لا تنبع من الغيرة على المسلمين بقدر ما تتلطى خلف الغيرة على الدين. التسامح مع افتراء المحيسني على السوريين ليس أمراً عارضاً من قبل إسلاميين اعتادوا على إلقاء اللوم، أو تلقيه، بسبب الانحراف عن الدين القويم؛ هذا في صلب حركات الإسلاميين، وفي صلب معركة كل منها لفرض رؤيتها الإسلامية الخاصة، حيث الاتفاق على أن العلة هي في مسلمين تخلوا عن واجبهم في حماية دينهم.
قبل أقواله الأخيرة كان المحيسني، مع بدء معركة فك الحصار عن حلب، قد ألقى كلمة يعِد فيها المقاتلين بحوريات، بصقة كل منهن كافية لتحلية البحر. هذه هي نظرته حتى إلى أولئك المقاتلين من أجل هدف يُفترض أن يكون منع الحصار والتجويع عمّن يستهدفهم القصف “العقاب الرباني”، فهو يرى فيهم مجرد صغار طامعين بعالم من الجنس مع الحوريات، ويا للمصادفة! هي ذات البروباغندا التي يستخدمها النظام ومؤيديه في الداخل والخارج، إذ تصور كل مَنْ يقاتل النظام كإرهابي طامع في نيل ما تصوره مخيلة المحيسني وأشباهه من إباحية جنسية مشروعة وأبدية. لكن يتأكد أن ذنب المحيسني وأمثاله مغفور، وسط الاحتقان والشحن الطائفيين، فلا تأخذ إهاناته حقها ولا يُطالب باعتذار واضح عن أقواله، والأهم أنه لا يُعزل من منصبه كشرعي في جيش الفتح، ولنا أن نتصور أية قواعد فقهية يستند إليها في موقعه من خلال المثالين السابقين، يُضاف إليهما أنه ملاحق أصلاً في بلده السعودية لأسباب تتعلق بمحاربة التطرف.
من المؤكد أن أنصار المحيسني لن يقبلوا أي نقد مهما بلغت وجاهته، بخاصة إذا أتى النقد من خارج دائرة الإسلاميين الذين صمتوا عنه أصلاً. ولن نعدم بينهم غالبية تباشر الهجوم على العلمانية والعلمانيين بوصفهما سبب كل بلاء. لكن ربما تكون الإهانات التي يوجهها المحيسني، ولا يعتذر عنها ولا يُطالب بالاعتذار، معياراً للفرق بين العلمانيين والإسلاميين، فالإسلاميون بغالبيتهم يدافعون عن الإسلام، بينما يدافع العلمانيون عن المسلمين ضمن دفاعهم عن حقوق الجميع. هذه هي القسمة الفعلية، بين مَنْ يدافع فقط عن الإسلام ومَنْ يدافع عن المسلمين وغيرهم.