محمد رشدي شربجي
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكك عدة إمبراطوريات منها العثمانية، صعدت الفكرة القومية كمعبر أساسي لهويات الكيانات السياسية الناشئة، وقد تأثر العرب متأخرين بالمد القومي وثاروا على الدولة العثمانية بدعم بريطاني في أوائل القرن، حتى تحقيق الدولة العربية الكبرى التي لم تلبث أن صارت هباءً منثورًا مع تقاسم فرنسا وبريطانيا لبلدان المشرق العربي.
ومرة أخرى خاض العرب نضالهم في المشرق العربي ضد الاستعمار تحت راية العروبة أكثر من راية الوطنية، وكانت الفكرة العربية وتحرر العرب جميعًا من الاستعمار وتشكيل الدولة العربية من المحيط إلى الخليج محركًا دائمًا للشعب العربي ودافعًا حاسمًا له نحو النضال.
ليست علاقة العروبة بالإسلام كعلاقة أي قومية أخرى بالإسلام، فليس من السهل تخيل وجود عرب بدون إسلام، ولكن يوجد فرس وترك وكرد بدون إسلام، وهذه العلاقة العضوية أدخلت اللبس على فهم العرب للإسلام، وبدل من أن يعيش المكون القومي والديني في الهوية العربية بتناغم كما هو الحال مع القوميات المجاورة لنا، غالبًا ما جرى نزاع بينهما سبب فشل الدولة العربية القطرية ومزق المجتمعات العربية إلى طوائف متناحرة.
أصابت حرب الخامس من حزيران 1967 القومية العربية في مقتل، الفكرة التي حكمت بلدان الطوق منذ الاستقلال، وفي سبيلها (هي التي ستحرر فلسطين) تخلى العرب طواعية عن حرياتهم السياسية حيث لا صوت يعلو فوق صوت معركة لم تأت عقودًا، وحين أتت لم يعلُ فيها إلا صوت الجيش الإسرائيلي مقتحمًا ثلاثة بلدان عربية ومكملًا احتلال فلسطين.
لم تنقذ حرب أكتوبر القومية العربية من احتضارها، فالحرب التي خيضت على جبهتين وانتهت بتقدم إسرائيلي عليهما معًا، ظهر سريعًا أن الهدف منها مصريًا اتفاقية كامب ديفيد للسلام، بحسب ما قال أنور السادات، أما سوريًا فكان هدف الأسد إحكام قبضته على سوريا خاصة أنه كان المسؤول المباشر عن هزيمة حزيران المذلة.
هكذا إذن وصلت القومية العربية إلى نهايتها، فلا حررت فلسطين، ولا أعادت مجد العرب الغابر الذي وعدت به بعد التحرر من الدولة العثمانية والاستعمار، ولا بنت دولًا قويةً تحترم مواطنيها وتدافع عنهم ضد الأخطار الخارجية، ترافق ذلك مع صعود السعودية كدولة نفطية وراعية للتيار السلفي الوهابي، واحتدام الحرب الباردة بين السوفييت والولايات المتحدة والتي رأت أنه من الممكن معاداة التيار الإسلامي للاتحاد السوفييتي الشيوعي “الملحد”، الذي ترتبط به مجمل التيارات القومية العربية معادية “الإمبريالية”.
لم يتبنّ التيار الإسلامي القضية الديمقراطية بشكل عام إلا متأخرًا، وجرى تنظير مكثف خلص في كثير من الحالات إلى أن فشل الدول العربية في الحكم وتحرير الأقصى هو لأنها ليست دولًا إسلامية، لا لأنها دول غير ديمقراطية تحكمها نخب في سبيل مصالحها. وسادت في أوساط المتدينين عبارات شائعة أقرب للأساطير مثل أن الأقصى لن يحررها إلا من كان على دين صلاح الدين، أو تصريح جولدامائير بأن المسلمين سيحررون الأقصى فقط عندما يكون عدد المصلين في صلاة الجمعة كعددهم في صلاة الفجر، وهي عبارات لم يقلها أحد ولا تشكل حقائق علمية بكل الأحوال.
لم يستطع التيار الإسلامي الوصول إلى السلطة في معظم الدول العربية، ودائمًا ما انقلب عليه التيار الحاكم حين سنحت له الفرصة، حتى حين وصول التيارات بطريقة ديمقراطية إلى الحكم، وحين وصل (كما في السودان) عبر انقلاب عسكري، لم يحرر فلسطين ولم يبنِ دولة كذلك، بل ساهم في تمزيقها كما فعل غيره بنفس الدرجة، وبكل الأحوال بقيت قضية الديمقراطية خارج النقاش، فلا صوت يعلو فوق صوت معركة لم تأت، وحين أتت خاضها البشير ضد أجزاء وطنه.
دخل على الساحة العربية متغير جديد مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فالعرب الذين تخلوا عن القضية الفلسطينية في كامب ديفيد تركوا بلادهم مكشوفة من أقصاها إلى أقصاها للدولة الفارسية التي تبنت نظريات الأمن القومي المذهبي تحت شعار “تصدير الثورة” مستغلة التعاطف الشعبي العربي مع فلسطين، وفشل الدول العربية القطرية في بناء هويات وطنية عابرة للطوائف داخل أوطانها.
لم يبق للدولة العربية أيديولوجية هنا، لم تعد قومية ولا إسلامية ولا دولة من أي نوع، باتت نخبة عسكرية أوليغارشية تحكم مجتمعاتها التي غدت طوائف بموجب عقود خاصة لحمايتها من بعضها، وما فعلته الثورات العربية أنها كشفت غطاء الدولة عن هذه الأخطار، لتكتشف الشعوب أن الأخطار لا تقبع في الخارج ولا حتى في الداخل، الخطر يأتي فقط من الدولة دون غيرها.
لم يساهم تراجع العروبة في خلق هوية وطنية قطرية، بل أدى إلى صعود هويات تحت وطنية طائفية يتحدث باسمها من نصبوا أنفسهم حماة لطوائفهم.
يعيش النظام الرسمي العربي، خاصة في دول المشرق العربي، تفتتًا لم يعد من الممكن إصلاحه، تآكلت سلطة الدول وانتشرت في كل دولة على حدة عشرات الفصائل المسلحة، وأنشأ كثير منها دويلاته الخاصة داخلها.
من العجب العجاب أن النظام الرسمي العربي والنخب العربية وهي ترى مجتمعاتها ودولها تتفتت أمام عينيها اكتشفت أن المشكلة هي أنها يجب أن تفعل ما فعلته خلال القرن الماضي بوتيرة أسرع، تتهافت اليوم على التطبيع مع إسرائيل وهو ما من شأنه فقط خدمة إسرائيل وإيران في وقت واحد، ثم تنخرط النخب كاملة في تجييش طائفي يزيد من تفتيت العرب خدمة لدول الجوار، أما قضية الديمقراطية فلا صوت يعلو لها فوق صوت المعركة.