“كانت أحواله المادية مثلنا
مال وعلاقات وشبهة.. أثرياء الحرب الجدد
حنين النقري – عنب بلدي
تمدّ يدها لتستلم منه أكياس المؤونة، وظرفًا يحوي رزمةً مالية، تسأله “دريت شي عن أبو حسن؟” يجيبها بالنفي، تدعو له مع تنهيدة “الله يعوض عليك” وتغلق الباب، لتبدأ بعدّ المال الذي بين يديها، وتفقّد محتوى الأكياس والهمّ يكسو تفاصيل وجهها.
“كانت أحواله الماديّة مثلنا، يسكن في شقّة مع أهله ويعمل في وكالة كهربائيات هنا في ريف دمشق، كيف حدث ذلك لم نكن ندري لكنه شبّ على وجه الأرض فجأة وبدأت تبدو عليه علامات الغنى”، تقول أم حسن عن مُنير، صديق زوجها المُحسن الذي طرق بابها للتو.
وأسهمت الحرب في سوريا بتقلّص حجم الطبقة الوسطى فيها من 60% قبل الثورة إلى 9.4% عام 2016، في حين يعيش 86.7% من السوريين تحت خطّ الفقر، لتتفرّد طبقة صغيرة، أقل من 5%، من الشعب السوري بالثراء، ما بين كبار التجار، والمسؤولين، وأثرياء الحرب الجدد.
البداية.. تجارة السلع الغذائية
تزامنت بداية ثراء منير مع ظهور المناطق المحاصرة، حيث استغلّ معرفته ببعض التجار ورجال الأمن ليكون وسيطًا لدخول المؤن والسلع بأسعار باهظة، تقول أم حسن “عندما عرض منير على زوجي العمل معه في تجارة السلع الغذائية للمناطق المحاصرة لم يقبل زوجي، وكان رفضه عن مبدأ حتى لا يتاجر بآلام الناس وقوتهم، لكن منير استمرّ بعمله، يُدخل الغذاء للمناطق المحاصرة ويبيعها لموزعين هناك بأضعاف سعرها، مثلًا ربطة الخبز التي كنا نشتريها بـ 35 ليرة كان يبيعها بتسعمئة ليرة، وهكذا كل السلع الأخرى”.
بدأ الثراء يظهر على منير بشرائه سيّارة خاصة به، تلك التي سرعان ما استبدلها بسيارة أحدث بعد أشهر قليلة “كانت أموره التجارية عال العال وكان هذا واضحًا في لباسه وسياراته”، تقول أم حسن.
وكان عبد الكريم الشامي، عضو المجلس المحلي في ريف دمشق، أوضح، في حديثٍ لصحيفة القدس العربي، أن النظام نجح في إنشاء شبكة من تجار الحروب في مناطق المعارضة السورية وجعل إدخال المواد الغذائية يتم عن طريقهم حصريًا، فيما تقدّر أرباح بعض التجار اليوميّة ما بين 1500 إلى 4000 دولار أمريكي يُدفع جزء منها كأتاوات للنظام حسب حسام الدين جبل، العامل في إحدى منظمات التوثيق.
تجارة العملة
مع استمرار انخفاض قيمة الليرة السوريّة، كان لا بدّ لمنير من التعامل بالدولار، وهنا بدأ عمله في تحويل الأموال ما بين مختلف المحافظات السورية وبين الخارج والداخل، وتبديل العملات، ليعرض العمل على صديقه “أبو حسن” مجددًا، حسب زوجته “بعد أن رأينا الثراء السريع لمنير، فكّر زوجي جديًا بالعمل معه، وكان تدهور أحوالنا الماديّة دافعًا إضافيًا للبحث عن أي مصدر دخل جديد”.
بعد جولات من التفكير والمفاوضات وافق أبو حسن على العمل بشروط، ”فاشترط أن يقتصر عمله على استلام المكالمات الهاتفية وتنظيم أمور الحسابات بسبب عمله السابق كمحاسب”.
تضيف أم حسن أن التعاملات المادية كانت تتم جميعها بشكل مباشر عبر عناصر من الجيش والأمن من معارف منير، “لم يكن هناك خوف كبير من المتاجرة بالدولار والعملات، لأن كل هذه الأمور تتم تحت علم رجال أمن وبعد إعطائهم عمولتهم منها، ومع بدء عمل زوجي مع منير تحسّنت أحوالنا المادية فقد كان راتبه سخيًا”.
الجوازات والشهادات
لم يكتفِ منير بتجارة العملات أو السلع الغذائية، إذ منحه المال وقربه من رجال الأمن وحاجات الناس منفذًا إضافيًا للمزيد من الربح، تقول أم حسن “كنتُ أعلم من زوجي أن منير يستغلّ علاقاته برجال الأمن في استخراج جوازات سفر للمطلوبين، وتأمين تأجيل الخدمة العسكرية، أو حتى شراء وثائق تخرّج مزيفة من الجامعات السوريّة، لم يقبل زوجي أن يدخل معه في هذا العمل وبقي محاسبًا لديه فقط، لكنّ منير كان يتاجر بكل هذا”.
وباتت تجارة الجوازات والشهادات الجامعية رائجة للغاية في ظل تدهور الأوضاع القانونية في سوريا، كثيرًا ما تكون الشهادات المزوّرة ممهورة بأختام حقيقية من وزارة التعليم العاليم ووزارة الخارجية السورية، بأسعار تتراوح بين مئتين إلى ثلاثمئة دولار، حسب الفرع والاختصاص، فيما يزيد سعر جواز السفر عن 1500 دولار.
محروقات داعشيّة
توسّع عمل منير، وكثرت العملة بين يديه، وهو ما أتاح له التفكير بمشاريع جديدة تدرّ عليه المزيد من الربح، وهنا بدأ بالتوجه للشمال السوريّ، وتحديدًا إلى مناطق داعش، تشرح أم حسن “بدأ منير يعمل في تجارة المحروقات من أماكن سيطرة تنظيم داعش إلى أماكن أخرى، مثل المناطق المحررة في الشمال أو مدينة حماة، ثم وسّع نشاطه لنقل المحروقات إلى السويداء ودرعا”.
وتعتبر تجارة النفط المورد الأساسي والأهم لتنظيم “داعش”، ومحافظة دير الزور هي المنطقة الأكثر إنتاجًا للنفط لـ”داعش” خاصة من حقلي العمر والتنك، إذ يبلغ إنتاجها ما بين 34 إلى 40 ألف برميل يوميًا، ويختلف سعر البرميل من حقل لآخر. يقدّر دخل التنظيم من النفط بحوالي 1.1 مليون دولار يوميًا. ويُستهلك 50% منه في مناطق سيطرة المعارضة السورية.
اعتقال وشكوك
استمرّ منير بالعمل في تجاراته الكثيرة وإمبراطوريته المتوسّعة، وأبو حسن بالعمل محاسبًا لصالحه إلى أن اعتقلا فجأة من قبل فرقة مداهمة، تقول أم حسن “منذ شهرين تقريبًا اعتقلوا زوجي من المنزل، وعندما اتصلت بعائلة منير لأطلب المساعدة علمتُ أنه اعتقل أيضًا”.
بعد عدّة أيام، وبعد أن دفعت عائلة منير الملايين للنظام أُفرج عنه، “خرج منير بسرعة بسبب المبالغ الضخمة التي دفعتها عائلته والواسطات التي يعرفها. في الحقيقة معارفه من الأمن هم نفسهم من اعتقله ليستفيدوا منه (بقرشين)، لكن زوجي لم يخرج حتى الآن”.
أكّد منير لأم حسن أنه سيسعى ليُخرج زوجها من السجن، ولن يغمض له جفن إلى أن يعود صديقه لبيته، تضيف “اطمأننت في البداية أنه سيخرج لأن أبو حسن لا يعمل في (الأمور التقيلة) وهو مجرّد محاسب، لكن أملي يتضاءل يومًا بعد يوم”.
تخشى أم حسن أن يكون زوجها اعتُقل بدلًا عن صديقه، وتضيف “كثيرون اليوم يودعون أشخاصًا آخرين في السجن بدلًا عنهم، خاصة إن كانت واسطتهم كبيرة، وهو ما أخشى أن يكون قد حصل لزوجي، أحاول أن أطرد هذه الوساوس من ذهني كلما أرسل لنا منير مالًا ومساعدات”، تتنهد بحسرة “في النهاية لا يمكنني إثبات هذه الشكوك، وكل ما أملكه هو تقبّل هذه المساعدات والانتظار”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :