لندع جانباً التعليقات الإعلامية التي طالت داريا أسلاموفا، تحديداً تلك المتعلقة بظهورها شبه عارية على أغلفة وصفحات بعض المجلات، فهذا مما يقع في باب حريتها الشخصية وفي ما هو عادي في المجتمعات الغربية. بهذا المعنى لا يعيب بشار الأسد أن تحاوره امرأة مثلت أفلاماً إباحية، بحسب تعليقات راجت على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن المستحسن الانتباه أكثر إلى ما كشفت عنه أسلاموفا بعد نشر الحوار، لأن ملابسات ترتيب المقابلة والكشف عنها هما الأهم، وهما ما قد يوضح الآلية الإعلامية للنظام.
بحسب أسلاموفا، استغرق البحث عنها “بسبب مواصفاتها” حوالي أربعة أشهر، وطُلب منها ارتداء ملابس تُظهر أنوثتها، أي أن النية منعقدة أصلاً للتركيز على الجانب البصري لا على مضمون اللقاء، ومن المؤكد أن من اختارها كان على علم بصورها الفاضحة. وإذا تذكرنا تركيز الموالين في بداية الثورة على لون عيني بشار الزرقاوين، والتغزل بهما على صفحات التواصل الاجتماعي حيث زرقة العيون تُعتبر استثناء “غربياً” في مشرقنا، فذلك قد يكون مدخلاً جيداً لفهم الآلية الشكلانية التي يُدار بها إعلام النظام، والتي يُرى أنها حققت إنجازات طيبة في مخاطبة مجتمعات غربية عصرية، لا بأس أن تتوج بصحافية ونجمة تعرٍّ، بالمقارنة مع آلة إعلامية تعود إلى فصائل إسلامية تبدو كأنها تجلب أشخاصها ومؤثراتها البصرية من أفلام موغلة في التاريخ.
لم تسعَ أسلاموفا إلى عقد المقابلة، وربما لم يسعَ كثرٌ قبلها إلى لقاء بشار، وجلهم من الصحافيين الغربيين. ربما استغرق البحث عن كل منهم أشهراً أيضاً، قبل أن يأتي ذلك الاتصال من مكتب بشار الإعلامي، فيتلقفه الصحافي المعني كمفاجأة مهنية طيبة، ولم لا ما دام اللقاء بقاتل لا يُعد جرماً أخلاقياً بالمقارنة مع تركه طليقاً؟ لكن لم تكن أسلاموفا الأولى في الكشف عن كواليس إعداد اللقاء مع بشار، فقد سبقها إلى ذلك صحافيون غربيون، وإذا شاب كشفها وبعض أقوالها في اللقاء شيءٌ من التعالي فإن الكشف ينطوي أولاً على الاعتذار عن فعل اللقاء ذاته، مع إدراك صاحبه بأن أقواله ستؤدي إلى حرمانه من الحصول على الفرصة ثانية. هذا السلوك يكشف عن عدم رغبة الصحافي في تكرار المقابلة، وربما عن عدم ثقته بإمكانية تكرارها لأن المعني بها لن يبقى طويلاً في مكانه أو مكانته.
ما يهدف إليه النظام في المقام الأول هو تكرار الإطلالات الإعلامية لرئيسه، بمعزل عن عدم وجود أي جديد في أقواله، أو في الأسئلة التي تُوجه إليه. بل كلما بالغ في إنكار الواقع، أو في ضخ الأكاذيب التي لا تُصدّق، يكون اللقاء قد أدى وظيفته داخلياً، إذ يكون قد سوّق فكرة “الرئيس” المقبول خارجياً على رغم كل ما يفعل، وعلى رغم سهولة تفنيد ادعاءاته. هنا رسالة مزدوجة، فيها تطمين لمعسكر الموالاة، وفيها قهر لمعسكر الثورة. لكن، إذا ابتعدنا قليلاً عن المغالاة، ينبغي عدم تحميل هذه الاستعراضات الإعلامية أكثر مما تحتمل، وعدم النظر إليها بوصفها دلالة على نية المجتمع الدولي تلميع صورة بشار. في السياق نفسه، الأقرب إلى الواقع رؤية ما هو غالب في الخطاب السياسي والإعلامي العالمي، وهو ينص على تجريم النظام ورأسه بلا مواربة، مثلما ينطوي أحياناً على القبول بجرائمه ما دامت محصورة في النطاق المحلي، أو المفاضلة بينه وبين بديل إسلامي غير مقبول.
شعور السوريين، مع كل مقابلة جديدة لبشار، بأن العالم متواطئ على إبقائه هو بالضبط ما يريده النظام، وفي هذا يكمن تماماً عنصر قهرهم بعد عجزه بكل وحشيتهم عن قهر إراداتهم. ومع الإقرار بلاأخلاقية مجمل السياسات الدولية المتبعة إزاء القضية السورية، فإن النظر إلى العالم بوصفه متواطئاً على هذا النحو لن ينفع إلا في تكريس اليأس والقهر من القدرة على تغيير المعطيات الخارجية، أو حتى في تكريس صورة نمطية للعالم غير قابلة للتغيير، وهو ما نشهده عموماً في الخطاب الإسلامي وفي خطابات اليمين المتطرف الغربي، حيث يرى الجانبان اختلافات هوياتية غير قابلة للردم بين الطرفين.
على العموم، من الإفراط في قهر الذات تصور بضع مقابلات صحافية كأنها مقدمة للقبول ببشار دولياً، فهو في أحسن حالات بقائه لن يغادر مكانة المنبوذ أخلاقياً، لا كرمى لعيون السوريين، وإنما لحرص المسؤولين الغربيين الكبار بغالبيتهم على عدم تلويث سجلهم بلطخة من قبيل التواصل معه. من ناحية لاأخلاقية صرفة، قد يحقق استمرار الحرب في سوريا، واستنزاف جميع المنخرطين فيها غايات لبعض القوى الدولية؛ هذا أمر مختلف تماماً عن القبول ببقاء بشار بعد انتهاء دوره في استمرارها. قهر السوريين بهذه الطريقة ليس غاية دولية، وإن كانت دماؤهم بلا قيمة أمام غايات أخرى يتعدى بعضها الساحة السورية.
عندما تدنو نهاية المستبد في رواية “خريف البطريرك” لغابرييل غارثيا ماركيز تعمد حاشيته إلى إلباس العاهرات ثياب بنات المدرسة، كي يستمتع بمنظرهن من شرفته وهن يعبرن إلى مدارس لم يعد لها وجود بالقرب من القصر. في “خريف البطريرك” عادةً يصطنع كل من في القصر تلك المظاهر المنقطعة عن الواقع، بما فيها صورة باهتة لديكتاتور لا يفيد الثوب المزهّر لصحافية، ولا كعبها العالي، في منحه قليلاً من النضارة.