كان السؤال متردّداً وخجولاً في البداية، ولا يملك المبررات الكافية ليطرح بصوتٍ عالٍ، ولكنه الآن بات أكثر من ملحّ، وأكثر من واضح، ما الذي ينتظر محافظة إدلب في الشمال السوري، وما الذي ستكونه؟ وأي مصيرٍ يحضر لها؟ وأي شكلٍ ستأخذ؟ هل ستكون البديل الأخفّ وطأة من “الدولة الإسلامية في العراق والشام”؟ هل ستكون نقطة انطلاق لخلافةٍ إسلاميةٍ جديدةٍ يحل فيها أبو محمد الجولاني (أو أي شخص آخر) محل أبي بكر البغدادي الذي ستنتهي صلاحيته؟ هل يتم تحويلها إلى مركز استقطاب وتجميع لأصحاب التوجه الإسلامي المتشدّد في جميع المناطق السورية، تمهيداً لخوض معركةٍ شاملةٍ معهم؟ هل يجري تحضيرها، لتكون نموذجاً جديداً لحكم إسلامي سوري غير أممي، وغير عابر للحدود؟ أو ما هي الاحتمالات اللانهائية لهذا السؤال؟
الواضح أنه يجري التعامل مع إدلب بطريقةٍ مختلفةٍ تماماً عن باقي المناطق السورية، حتى أن المبعوث الدولي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، حين أراد أن يقول كلمةً بخصوص ما يجري في حلب، تحدث عن مئاتٍ من مقاتلي “جيش الفتح”، يتخذهم النظام وروسيا ذريعةً للاستمرار في القصف الجوي المكثف لحلب، وعرض على هؤلاء المقاتلين أن يتوجهوا إلى إدلب وعرض أن يرافقهم شخصياً إلى هناك، وكأن إدلب مقاطعة أو ولاية مخصصة لهذه الغاية.
وقد نصت اتفاقية قدسيا والهامة على أن يتوجه المقاتلون في المنطقتين إلى إدلب، وهذا ما حصل فعلاً، ففي الأيام الماضية، وصل 2600 شخص من منطقتي الهامة وقدسيا إلى محافظة إدلب، وهم يضمون مقاتلين، رفضوا إجراء تسويةٍ مع النظام وعائلاتهم وأقاربهم، ووصلوا، ببساطةٍ، إلى المحافظة، بإشراف الهلال الأحمر السوري القريب من مؤسسات النظام. وقبلها وصل مقاتلون من داريا ومن مدينة حمص، ومن مناطق أخرى، فالتسويات التي يقوم بها النظام، أو الروس بشكل مباشر، تنص غالباً على فتح طريق آمن للمقاتلين المنسحبين، ليصلوا إلى إدلب بيسر وسهولة.
ويصبح تجميع المقاتلين من كل أنحاء سورية في محافظة إدلب بهذه الطريقة أمراً مريباً، حين يتوافق عليه الجميع، النظام والروس والأمم المتحدة والولايات المتحدة والمعسكر الغربي والجميع، ويدلل، بطريقةٍ لا لبس فيها، أنه يجري تحضير شيءٍ ما لإدلب، وقد لا تكون عقولنا الصغيرة قادرةً على تصور ماهيته. ولكن، قد يكون له أهداف متعددة، وليس هدفاً واحداً، فالمعارك التي تنشب بين فصائل المعارضة المختلفة تأخذ شكلاً أكثر شراسةً في محافظة إدلب، بسبب تعدّد منابت المقاتلين وتوجهاتهم، والاندماجات والتفكّكات التي تجري بين الفصائل أكثر ما تحصل في المحافظة نفسها، ولعل المعارك الشديدة التي نشبت بين “جند الأقصى” و”أحرار الشام”، والتي ذهب ضحيتها عشرات المقاتلين من الطرفين، ثم انضمام “جند الأقصى” إلى “فتح الشام” (جبهة النصرة سابقاً) أقرب دليلٍ على ما يجري هناك. وهناك مؤشر آخر جدير بالاعتبار، هو وتيرة القصف الجوي لإدلب من النظام والروس، والذي تراجع كثيراً، في الفترة الماضية، على حساب حلب وريف حماة، وبعض المناطق في ريف دمشق، وكأنما يجري نوع متوافق عليه من أنواع الهدوء النسبي لإغراء المقاتلين وعائلاتهم بالتوجه إلى هناك، ومنحهم شعوراً زائفاً بأن المنطقة أصبحت محرّرة تماماً وآمنة.
ولعل المعركة الكبيرة التي سيلتقي بها الجميع (الروس والأميركان وحلفاء الطرفين)، والتي بدأ يتحدث عنها المحللون، لن تكون في الرقة، بل ستكون في إدلب، وشعار محاربة الإرهاب، والذي تجري تطبيقاته العملية اليوم في الشرق، حيث مواقع تنظيم داعش، ربما سيشهد التطبيق الأكثر عملية وعالمية في الشمال الغربي، حيث يجري اليوم تجميع مقاتلي المعارضة من رافضي التسويات السياسية بأنواعها كافة. وفي الوقت نفسه، يجري الحديث عن تنسيق روسي أميركي على أعلى مستوى، لتشكيل تحالف عالمي، لخوض المعركة الأخيرة ضد “الإرهاب بأنواعه كافة”. وهذا التحالف يمر بسحابة صيف ستنقشع، حالما تنتهي الانتخابات الأميركية، وتستقر الحياة السياسية فيها، فهل ستكون إدلب ساحة تلك العركة؟ وهل سيكون المعارضون السوريون الذين يجري تجميعهم بهدوء هدف تلك المعركة ووقودها؟ وهل سيكون الرابح من المعركة النظام السوري؟ وهل سيذهب من يتبقون من مدنيين في إدلب، وما بقي من بيوتها وأشجار زيتونها وقوداً للحريق المنتظر؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام، ولعلنا ـ وليتنا ـ نكون مخطئين.