لم يتعثّر البديل السوري روسياً وحسب، بل تعثر أميركياً أيضاً. وعلى الرغم مما كانت أميركا قد تعهدت به من جعل حقوق الإنسان أحد البنود التي ستلزم سياستها الخارجية بها، فإنها اتخذت، منذ البداية، موقفاً متوجّساً من الثورة، على الرغم من أنها التزمت ببناء دولةٍ ديمقراطيةٍ، لمجتمعٍ ذي سويةٍ ديناميةٍ وثقافيةٍ حديثة، لأن قيام دولةٍ كهذه يهدّد إسرائيل التي تحتل أراضي سورية، وتفتقر إلى قدراتٍ مماثلةٍ لقدرات الشعب السوري، وستواجه مصاعب جدية، بمجرّد أن يفعل النظام الديمقراطي العتيد ديناميته التي عطلها الاستبداد، فإن أصابت عدوى الديمقراطية العالم العربي، صار الخطر على إسرائيل وجودياً، ووقعت في ورطةٍ ستلزمها بتغيير حساباتها تجاه العرب، وستغيّر حسابات العالم تجاهها، وهي التي لم تتخلص إطلاقاً من مشكلاتها الوجودية مع الفلسطينيين، فإنْ نال هؤلاء استقلالهم، وأقاموا دولتهم الحرّة والسيدة، في حاضنةٍ عربيةٍ ديمقراطية وحديثة، تعرّضت لتحدياتٍ ستجهض مشروعها التوسعي/ الاستيطاني، وتضعف مجتمعها الهش الاندماج، ولن يبقى لها من خيار غير العيش، بدلالة الظرف العربي الجديد، والإقلاع عن فرض إرادتها على جيرانها، وإرغامهم على العيش تحت سطوة قوتها التي سجنتهم، مذ تأسّس كيانها في قلب منطقتهم، داخل مأزق تاريخي، عزّزه تأخرهم، وتخلف نظمهم الأيديولوجية والسياسية التي ستحرّرهم ثورة الحرية منها، وستقلب صفحتها، وتفتح صفحة جديدة يبدأ معها تاريخ عربي/ إنساني جديد.
في حساباتها الواقعية، بنت واشنطن مواقفها على المفردات التي اعتمدتها موسكو، وتتلخص في رؤية الحدث السوري، على ضوء المصالح الخارجية والعلاقات والتوازنات الدولية، والامتناع عن تحديد موقفها منه، انطلاقا من مطالبه وأهدافه السورية، وإن كانت تشبه، في شكلها ومضمونها، ما هو قائم من أوضاع ومعتمد من قيم في بلدان الغرب. يفسر هذا التشابه بين سياستي الدولتين لغة النفاق التي اعتمدتها إدارة أوباما تجاه الثورة، لإيهام السوريين بأنها ملتزمة باحترام حقوق الإنسان معياراً لسياستها الخارجية، وعازمة على التقيد بها في الحال السورية أيضاً، بينما ركّزت خططها الحقيقية على إيجاد بيئةٍ، تسمح بتفكيك سورية وإعادة تركيبها، في سياق تفكيك دول المنطقة الأخرى وإعادة تركيبها الذي كانت كوندوليزا رايس، وزيرة خارجيتها الأسبق، قد بشّرت بها، ودشّنتها في العراق، خطوةً أولى تحقّق ما سمته “الفوضى الخلاقة”: الوسيلة التي ستحول دون بقاء الأمور على حالها الراهنة، ودون قيام نظام ديمقراطي ترفضه أو إسلامي، لأن إسرائيل ترفضهما وتؤيد، في الوقت نفسه، إطالة أمد الفوضى، أقله إلى أن يكمل الأسد تدمير آخر معقل لمقاومتها: مجتمع ودولة سورية.
على العكس من موسكو التي تخاف على النظام السوري، استخدمت واشنطن الحرب التي يشنها ضد شعب”ه”، لتحقق أهدافاً استراتيجية لها ولإسرائيل، أهمها انتزاع السلاح الكيماوي من النظام الأسدي مقابل الإبقاء عليه، ووقف البرنامج النووي الإيراني مقابل إدراج الملالي في سياقات استراتيجية جديدة، عابرة للحدود، فيها وظيفةٌ إنقاذية وجديدة لنظامهم. بما أن بلوغ هذين الهدفين كان مستحيلاً، من دون حربٍ ضارية وطويلة، فقد جعلت من جرّ البلدين إليها، وإطالة أمدها، هدفين متلازمين، حرصت على تحقيقهما بواسطة تدخلات يومية، حافظت على قدرٍ من التوازن بين النظام والمعارضة، حال دون انتصار أو هزيمة أي منهما، ومن دون وقفها، وفي الوقت نفسه، خروج أي متدخل أجنبي منها، بما أنها أزمة يتوقف النجاح في إدارتها على التحكّم بقواها، وعلى حسن إدارتها.
ثمّة معيار آخر حكم الموقف الاستراتيجي الأميركي من المسألة السورية، هو الحرب ضد الإرهاب الذي زاد من انعدام ثقة أميركا بالثورة وفرص نجاحها، وامتناعها عن إسقاط النظام قبل توفر شرطين، التقت واشنطن مع موسكو فيهما، هما: إيجاد بديل مستقر له، حالت سياساتها دون تشكله، ومنع القوى المتطرفة والإرهابية من احتلال موقع حاسم في أي وضع راهن أو بديل. التقت سياستا واشنطن وموسكو على هذين الهدفين اللذين شكلا أرضيةً مشتركةً بينهما، اتسعت، بمرور الوقت، إلى أن قرّبت موقفيهما، وإنْ في فترتين زمنيتين متفاوتتين، الأمر الذي يفسر أحد جوانب عدم اعتراض البيت الأبيض على الغزو الروسي لسورية، والاعتراض النسبي على التصنيف المعتمد روسياً للتنظيمات الإرهابية الذي استهدف ما تسميها أميركا “القوى المعتدلة” بالدرجة الأولى، تلك التي تعتبر واشنطن وجودها ضامناً لتوازن القوى بين النظام والثورة، وبينها وبين الطرف الروسي، وتضع كسره تحت بند المحظورات، خشية أن يفضي اختلاله إلى انفراط عقد الجيش الحر، وانفراد النظام والإرهاب بالساحة العسكرية، وما يرتّبه ذلك على أميركا من ضغوطٍ قد تستغلها موسكو لإرغامها على تغيير موقفها، نحو اتجاهٍ تحدّد هي خياراته.
بالوضع الذي وسم حال المعارضة، اقتربت واشنطن تدريجياً من موقف موسكو حيال النظام، وخشيت أكثر من الروس، ما اعتبرته فراغاً ستملؤه تنظيماتٌ إرهابية، ستجر الغرب إلى معركةٍ كبرى، وستتمكّن من توسيعها تدريجيا، ليس فقط داخل سورية، وإنما في بلدانه ومراكزه أيضاً. بذلك، صارت المعارضة، بجمودها وعجزها عن التفاعل بإيجابية مع البيئة العسكرية والسياسية، وبخلافاتها، جزءاً من معضلةٍ دوليةٍ، تتخطى الوضع السوري وصراعاته، وزاد طينها بلةً رفضها القبول بسياسة واشنطن حيال الحرب ضد الإرهاب، وامتناعها عن وقف جهودها على هذه الحرب، واشتراطها أن تتلازم مع مواصلة الصراع ضد النظام. بهذا كله، دخلت علاقات البيت الأبيض مع المعارضة في نفقٍ ردّ عليه بقرارين كبيرين، هما: البحث عن بديلٍ لقواتها تحارب بمعونته الإرهاب الذي تصاعد وانتشر بسرعةٍ، مع صعود “داعش” العاصف، وانتزاعها مناطق واسعة من الجيش الحر شمال سورية، ونجاح “القاعدة” في وضع يدها على إدلب ومواقع مهمةٍ في المحافظات السورية الأخرى، واستيلائها على مواقع استراتيجية للنظام، خزن فيها كمياتٍ ضخمة من الأسلحة والذخائر، بينما تقلص وجود الجيش الحر عدداً وانتشاراً، وتلقت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادا) الكردي، دعماً أميركياً جوّياً، عزّزه دعم بري، ضم مستشارين ووحدات نخبة، أسهموا بدور مهم جداً في طرد “داعش” من مواقع مهمة، وقلصوا مناطق سيطرتها في الشمال السوري، حيث بدأت تتخلق نظرة أميركا إلى مستقبل سورية. وقال مسؤولوها الكبار إنها لن تكون كسورية الحالية التي زالت ولن تعود، ولن يقوم فيها نظامٌ ديمقراطيٌّ مركزيٌّ، يتولى تنظيم أوضاع مختلف مكونات الجماعة الوطنية السورية وحقوقها، بل وتلاشت فرص قيام هذا النظام، بسبب تزايد خلافات القوى الخارجية، المتحكّمة بمصير سورية، وتعاظم تبعية القوى المقاتلة للخارج، ولغرف تحكم وسيطرة أميركية، ودخلت بلادنا مرحلةً سيرتبط مصيرها فيها بما سيقرّره الكبار لها وللمنطقة العربية، وبما سينجم عن صراعات هؤلاء وتفاهماتهم عليها، بعد أن غدت أوضاعها جزءاً من حالٍ تتخطّاها، ولم تعد معالجتها تتم على أساس أن أوضاعها قائمة بذاتها ومستقلة عن غيرها.
وفي الوقت نفسه، تبدّلت مفردات دولية وإقليمية وعربية ومحلية عديدة، تتصل بالصراع ومواقعه، وأخذت تلعب دوراً وازناً في إحداث تغيرات مفصلية في علاقات قوىً شرعت خلافاتها وتوافقاتها تصير عربية وإقليمية ودولية، وتذهب في اتجاهاتٍ متنوعةٍ، قد لا يعبّر عن حالها النهائية التفاهم الأميركي/ الروسي المتعاظم حول مفردات حلٍّ، يبقي على النظام الأسدي ورئيسه، ويحتجز أكثر فأكثر فرص نجاح الثورة، ويُرغمها على قبول تسوياتٍ جزئيةٍ هنا، تدريجية هناك، إن كانت تريد أن لا تخرج صفر اليدين من أوضاع وتفاهماتٍ دوليةٍ، تطوي فكرة حل سياسي شامل، يطبق وثيقة “جنيف1” والقرارات الدولية المرتبطة بها، والمتفرّعة عنها، وتستعيض عنه بحلٍّ متدرج، لا يلبي مطالب المعارضة أو يزيل النظام، ويضع سورية على سكة تغيير جزئي ومديد، يحفظ مؤسسات النظام العسكرية والأمنية، وإن قيد وظائف القمعية منها.
هذا الاحتمال ممكن الحدوث، ما لم تفشل واشنطن في فرض وصايةٍ دوليةٍ على بلادنا، وتنتصر روسيا وإيران، وتنقذا النظام الأسدي، برموزه وأركانه كافة، أو تقرّر واشنطن أن زمن وقف الصراع لم يأتِ بعد، وإن توسيعه يتطلب تعميقه محلياً ونشره إقليمياً، بهدف تغيير أوزان الدول في المنطقة وجوارها، وتأسيس تحالفاتٍ جديدة فيها على حساب وجود العرب وأدوارهم، تنجز تنسيقاً إسرائيلياً/ إيرانياً تحت إشراف أميركا، وتطوى صفحة العرب، فلا يفيقوا من غفلتهم وينهضوا من نومهم الشتوي الطويل، ويقرّروا استئناف معركة الحرية التي خاضها الشعب السوري بقوةٍ واقتدار، ولعب تخليهم عنه دوراً خطيراً في عدم تحقيق أهدافها.