كما كان متوقعاً، انقلب الروس على تفاهمهم مع الإدارة الأميركية، وما يحدث في حلب يدل على كونه مدبراً بالتوازي مع محادثات كيري – لافروف لإنجاز تفاهم التهدئة. ربما كانت سرعة الانقضاض على التهدئة مفاجئة نسبياً، لكن حتى استديو القناة التلفزيونية آرتي كان مجهزاً لرصد خرق مزعوم من المعارضة للهدنة في يومها الأول، ومن ثم أتى استهداف قافلة المساعدات الأممية ليطوي صفحة الوقت الذي استُثمر لإعداد الحملة الوحشية على حلب.
لندع التصعيد الأميركي اللفظي جانباً، ففي أقصى الحالات لن يؤدي إلى تغيير جوهري في نهج إدارة أوباما، بينما يحزم الطاقم الرئاسي حقائبه. من جانب آخر، ليست لمدينة حلب أهمية استراتيجية لدى الإدارة الأميركية، وذهابها إلى النظام لا تأثير له في معركتها المحصورة بـ «داعش»، وهي لم تسعَ حقاً إلى تقاسم أجواء المدينة مع الطيران الروسي فتفرض بذلك بعض شروطها، تحت مسوغ وجود جبهة النصرة المشمولة بقرار دولي ضد الإرهاب. الحرج الأميركي هو في المقام الأول إزاء بعض الحلفاء الغربيين والإقليميين، وإذ يُستبعد وقوع الإدارة ضحية خدعة روسية فغالب الظن أن التصعيد الكلامي لتجنب الإحراج أمام بعض الحلفاء الغربيين والإقليميين.
قبل أشهر، تحدث جون كيري عن أن بديل الحل السياسي هو التقسيم، أما الحل فيتضمن بقاء بشار الأسد وترشّحه الى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بموجب تسريب لأقواله أمام ناشطين سوريين نشرته صحيفة «نيويورك تايمز». لذا، قد يكون انهيار التفاهم الأميركي – الروسي مدخلاً إلى التقسيم، من دون أن يأخذ بالضرورة صفة قانونية مستدامة، ومن دون أن يؤدي التقسيم إلى وقف الحرب بين مناطق السيطرة المختلفة.
بالتوازي مع معركة حلب، تسير معركة «درع الفرات» المسنودة تركياً، لتنجز هدفها بالسيطرة على المنطقة الممتدة شمالاً من غرب الفرات حتى منطقة عفرين. الهدف المعلن هو طرد داعش، والهدف التركي «المعلن أيضاً» منع وحدات الحماية الكردية من السيطرة على الشمال السوري كله. هذه المنطقة، بسبب المعركة ضد داعش، مغطاة بمظلة من طيران التحالف الدولي، أو بتعبير آخر ممنوعة على طيران النظام والطيران الروسي. لكن ما يثير الانتباه، تلك التسريبات عن جعلها منطقة آمنة لاستقبال ما بين مليونين وثلاثة ملايين نازح سوري. طبيعة المنطقة الجغرافية تجعل من هذا المخطط أشبه باصطناع «قطاع غزة» سوري، يشبه الاكتظاظ السكاني للقطاع الفلسطيني إثر إنشاء إسرائيل.
وفق توزّع القوى المرتقب، سيسيطر النظام وحلفاؤه على الأراضي السورية باستثناء الشمال الشرقي وقسم من الشمال، إذ سيكون أولهما تحت سيطرة وحدات الحماية الكردية، والثاني تحت سيطرة قوات من الجيش الحر مدعومة تركياً برضا أميركي و «تفهم» روسي. ترسيخ التقسيم بموجب قرارات دولية مستبعد جداً، فتركيا لن تقبل مطلقاً بدويلة كردية مجاورة، ووحدات الحماية لن تمانع في بقاء صلة واهية من التبعية لنظام بشار، بينما سيتركز عداؤها لمنطقة النفوذ التركي المجاورة. أما منطقة النفوذ التركي، الموسومة بأنها «عربية سنية»، فستكون الأفقر على صعيد الموارد ولن تعدو كونها مخيم نازحين شاسعاً.
لن تكون هناك حدود نهائية بين مناطق النفوذ الثلاث، على الأقل ستبقى لكل منها مطالبه القصوى، وبحكم الواقع ستتساوى جميعاً على صعيد الشرعية، بما في ذلك النظام الذي هجّر نسبة كبيرة من معسكر أعدائه. بل سيكون الأخير أقلّها شرعية قياساً إلى ادعائه الحفاظ على السيادة، فضلاً عن توزع قسم كبير من مناطق سيطرته بين قواعد ومحميات روسية وإيرانية. وبالطبع لن يكون هناك قبول من أي طرف بالأمر الواقع الجديد، إلا تحت الضغوط الدولية التي يُرجح ألا تهدف إلى أكثر من خفض منسوب العنف.
الوصول إلى هذه الصيغة سيكون في مثابة إنهاء فصل من الصراع، والبدء بفصل جديد ضمن قواعد اشتباك مختلفة، وسيكون في مثابة فرصة للعديد من الأطراف لالتقاط الأنفاس بعد سنوات مستمرة من المعارك. نظرياً، سيبدو كل طرف داخلي قد أحرز كسباً ما، فالنظام ضمن بقاءه خارج نطاق التهديد العسكري المباشر، ووحدات الحماية الكردية ضمنت صيغة من الحكم الذاتي، وحتى المعارضة حصلت للمرة الأولى على موطئ قدم آمن في الداخل. لكن، في الوقت نفسه، سيصعب على أي طرف التنصل من الضغوط والتفاهمات الدولية، ولن يبقى متاحاً فتح معارك كبرى من دون مواكبة دولية.
خارجياً، تتيح هذه الصيغة للعديد من الفرقاء ادعاء عدم الخسارة، وفوق ذلك التخلص من الضغط الأخلاقي الذي تمثله وحشية النظام وحلفائه ضمن الواقع الحالي، إضافة إلى التخفيف من تدفّق اللاجئين. يمكن أيضاً الادعاء، دولياً، بأن هذا الوضع أفضل الحلول المرحلية في انتظار تبلور تسوية يُعاد فيها توحيد البلاد، بحيث يتم التمهيد واقعياً لفكرة الفيديرالية أو أي صيغة أخرى لا مركزية.
أما لماذا لن يأخذ التقسيم صفة مستدامة، فلأنه لن يكون هكذا مبنياً على أي من الأسس التي بُني عليها الصراع، ولا على العوامل التي رافقته، وربما غطت على مبتدئه. فلا هو تقسيم بين مجتمع الثورة ومجتمع الموالاة، ولا هو تقسيم طائفي أو إثني. هو مجرد تقسيم تمليه التوازنات الخارجية وينقضي بانقضائها، مع التنويه إلى عدم وجود قرار دولي يتعلق بإعادة رسم خريطة المنطقة ككل.
لسير هذا المخطط، يلزم التنبّه إلى منطقتين تبقيان خارج دوائر النفوذ السابقة، الأولى منهما إدلب، وكان لافتاً تصريح دي ميستورا الأخير حول نقل عناصر جبهة النصرة من حلب إليها، بعد أن كان النظام وحده يشترط خروج مقاتلي المناطق المحاصرة إلى إدلب تحديداً. يُستدل من هذه المؤشرات وجود توافق على تحويل إدلب إلى ما يشبه «تورا بورا»، تمهيداً للانقضاض عليها من حلفاء النظام، بعد تسويقها إعلامياً كمجرد منصة لتنظيم القاعدة. البقعة الثانية هي جبهة حوران (درعا)، ومن الملاحظ أنها لم تشهد تطورات دراماتيكية شبيهة بما جرى في الجبهات الأخرى، لأنها مضبوطة من غرفة الموك، ومحمية نسبياً للسبب ذاته. مستقبل جبهة حوران تحديداً هو ما سيقول لنا الكثير عن المستقبل القريب، إبقاؤها عصية على النظام، بعدّها الأقرب إلى دمشق، يعني تركه تحت التهديد وعدم حدوث الأسوأ بالنسبة الى غالبية السوريين.