ثم قتلت نفسها

  • 2016/10/09
  • 2:03 ص
محمد رشدي شربجي

محمد رشدي شربجي

محمد رشدي شربجي

من المفارقات، أن المفكرين السلفيين في بداية القرن الماضي هم من كنا نعتبرهم اليوم مجددي ذاك القرن، من أمثال محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، وآخرين، على عكس ما تطورت عليه الحال في معنى السلفية بعد إنشاء الدولة السعودية “الثالثة” في ثلاثينيات القرن الماضي، وسعيها لنشر المذهب السلفي الوهابي (محمد عبد الوهاب كان يعتبر مجددًا في عصره) في العالم الإسلامي، ويظهر تتبع الحركات السلفية المعاصرة بأنواعها الكثيرة المتكاثرة في كل بلد من البلاد العربية والإسلامية أنها جميعًا خرجت من السعودية.

في كتاب “الظاهرة السلفية”، الذي أصدره مركز الجزيرة للدراسات منذ عدة سنوات، ينقل بشير نافع الرأي بأن السلفية توائم إلى حد ما المناخ ما بعد الحداثي، بحيث يعكس تعددها وتكاثرها المستمر تشظي المرجعيات وتضاؤل الاهتمام بالتنظيم الهرمي، وبالرغم من أن الفكرة السلفية بذاتها كانت في الأصل ردًا على التشرذم والتفرق الحاصل في الساحة الفكرية الإسلامية بين مذاهب فقهية وفكرية شتى على اعتبار أن العودة للسلف هي عودة للأصل الذي “لا خلاف عليه” وهو ما سيجمع الأمة ويعيدها “كما كانت”.

والحقيقة أنه لا السلف “لا خلاف عليه” في زمانه، ولا الأمة “هكذا كانت”، بل الواقع أن تاريخنا هو تاريخ تدافع بين قوى مختلفة متعددة، كما هو أي تاريخ آخر بالمناسبة، فيه سلف صالح وفيه سلف طالح، وفيه سلف صالح قد يفعل طالحًا والعكس بالعكس، والسلف تصارعوا على السلطة وسالت بينهم الدماء، وإضفاء القدسية على كل السلف هكذا بإطلاق بصالحه وطالحه ثم الاعتماد على ما قاله السلف بحرفه لا بروحه واستنساخه دون اعتبار لزمان أو مكان، لن ينتج في النهاية إلا فكرًا معتلًا وحركات متهافتة تطلق النار على بعضها بلا نهاية.

وبالرغم من أن هذه الحركات تسعى نحو الطهرانية وتحض عليها، بل وتزاود فيها، صباح مساء، وقد أثبتت حزمًا وكفاءة في المعارك مع قوى وجيوش جبارة، لكن سنن الاجتماع أبت إلا أن تشملها كما شملت غيرها، وها هي تتحول إلى حركات أمراء حرب تسعى للسلطة و”الرئاسة” حتى لو على أبنية مهدمة ودور خراب.

في نيسان الماضي اجتمع فيلق الرحمن وجيش الفسطاط، وشنوا هجومًا منسقًا على جيش الإسلام في غوطة دمشق الشرقية، راح ضحيته عدة مئات من “المجاهدين”، ليتسارع مسلسل سقوط مدن الغوطة الشرقية واحدة تلو أخرى، ويكاد يحار المرء ما الذي يدفع بفصائل إسلامية سلفية تدعو وتزاود على غيرها بتطبيق الشريعة لخوض اقتتال أهلي مع فصيل إسلامي سلفي آخر، يزاود بدوره على الآخرين بتطبيق الشريعة؟ كيف يجد جند الأقصى الوقت الكافي لتدبير الاغتيالات والمفخخات لـ “إخوانه” في الحركات السلفية الأخرى، في الوقت الذي تحتشد جيوش الأرض لدعم قوات الأسد، التي تحرز تقدمًا يوميًا في عدة جبهات؟

وبغض النظر عن حسن النوايا التي يحاسب عليها الله وحده، فليس في رصيد السلفية الجهادية نجاح واحد يذكر، وليس غريبًا ألا تنجح في مكان بالتأكيد، طالما أن هدفها هو هزيمة روسيا والولايات المتحدة وأوروبا وبعض دول آسيا في وقت واحد، وليست وحدها من فشلت في كل مكان للأسف، بل فشلت كذلك معظم الحركات الإسلامية والديمقراطية وبقي الاستبداد جاثمًا على صدورنا، ولكن الفرق أن فشل باقي الحركات يرتد عليها حينما تفشل، أما الحركات السلفية الجهادية فإنها لا تفشل حتى تحيل مجتمعاتها إلى خرائب خاوية على عروشها.

أكثر من يعبر عن الاقتتال الحاصل بين جند الأقصى وأحرار الشام، وقبلها بين تنظيم الدولة والباقين هو محمد بهايا أبو خالد السوري (كان يكنى قديمًا بـ”أبو عمير الشامي”)، فبهايا الذي شارك في قتال النظام بالثمانينيات له تاريخ جهادي طويل، ومنزلة عالية بين الجهاديين، قاتل في أفغانستان والشيشان والعراق، ورافق عبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب السوري، وحين أفرج النظام عنه مع انطلاق الثورة، ساهم بتشكيل حركة أحرار الشام ثم قتله “أخوة المنهج” الذين رباهم على يديه!

أبو خالد السوري هو السلفية الجهادية ذاتها، قاتلت العالم كله ثم قتلتنا وقتلت نفسها، رحمه الله، رحمنا الله.

مقالات متعلقة

رأي

المزيد من رأي