يأتي توافق أعضاء مجلس الأمن على البرتغالي المخضرم أنطونيو غوتيريس، خلفاً للأمين العام للأمم المتحدة الحالي بان كي مون، وسط تشنج في العلاقات الأميركية – الروسية والأوروبية – الروسية بالذات في موضوع سورية، وفي خضم تراجع سمعة الأمم المتحدة بسبب فشلها في إيقاف المجزرة السورية وتملّصها من مبدأ المحاسبة على جرائم حرب.
يأتي انتخاب غوتيريس المرتقب لمنصب الأمين العام نوعاً من توكيل الرجل الذي تولى ملف اللاجئين للسنوات العشر الماضية، بمعالجة هذا الملف بأدوات مختلفة عن تلك التي كانت لديه بصفته المفوض الأعلى للاجئين في الأمم المتحدة من 2005 إلى 2015. فالرجل سياسي محنك لا بيروقراطي عادي، وهو يتسلم المنصب كأول أمين عام خدم سابقاً كرئيس للوزراء. غوتيريس بدأ حياته السياسية في سن الخامسة والعشرين عام 1974، بالانضمام إلى الحزب الاشتراكي البرتغالي، وتدرج في مناصب قيادية فيه بعيد انتهاء فترة الديكتاتورية والدخول في البرلمان ممثلاً عن لشبونة عام 1976، ثم رئاسة الكتلة الاشتراكية في البرلمان البرتغالي عام 1988، ثم فوزه برئاسة الحزب الاشتراكي عام 1992، الذي قاده إلى منصب رئاسة الحكومة عام 1995. هذه التجربة جعلت منه ديبلوماسياً بارعاً إلى جانب حنكته السياسية. وعندما تولى منصب رئيس المجلس الأوروبي عام 2000، كان واضحاً أن للرجل طموحات على الصعيد الدولي مرّت بمنصب المفوض الأعلى للاجئين ووصلت به الآن إلى منصب الأمين العام للأمم المتحدة. خبرته ومقدراته وحسن تنظيم حملته الانتخابية وجرأته على خوض المعركة على منصب يفترض أنه كان محجوزاً هذه المرة لامرأة أو لمرشح من أوروبا الشرقية، أدت إلى اختياره للمنصب قفزاً على الانتقادات له بأنه «اختلس» دور غيره. فالرجل الذي سيتولى إدارة منظمة الأمم المتحدة، إذاً، ليس خامة مجهولة بل الكل يعرفه ويعتبره الشخصية الضرورية للأمم المتحدة في هذا المنعطف. فكيف قد يتصرف أنطونيو غوتيريس وسط المهاترات الغربية – الروسية، وتراجع الشراكة الأميركية – الروسية، وبدء تململ الرأي العام العالمي من الصمت الرهيب على جرائم الحرب وقتل الأطفال في حلب ومدن أخرى في سورية؟
مؤشرات اليوم لا تفيد بإصلاح قريب للعلاقة الغربية – الروسية في صدد سورية، لا سيما أن الحكومة الروسية عازمة على الاستمرار في معركة حلب حتى النهاية بكل ما تنطوي عليه «النهاية» من أفق مفتوح على الزمن وعلى كلفة الفوز بالمعركة وعلى الثمن الذي تستعد موسكو لاستيعابه كي لا تخسر معركة حلب. سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين كان واضحاً بأنه لن يكون اعتذارياً على القصف والمأساة الإنسانية لأن المسألة من وجهة نظر روسيا تُختصَر في محاربة «النصرة» حتى النهاية أي حتى إنهاء «النصرة» على أنقاض أي كان في حلب. وبما أن روسيا أقحمت نفسها في معركة مصيرية لها وليس فقط لسورية، وفي ضوء ما يتم تهيئته من «الخطة ب» التركية – الخليجية بمظلة أوروبية وبمباركة أميركية، تبدو المرحلة الآتية مليئة بالتعقيدات في العلاقات الدولية وبالدموية الفاضحة في نهج روسيا وحلفائها في سورية بكلفة إنسانية صعب تجاهلها.
لن يكون سهلاً على أنطونيو غوتيريس مواجهة الإعلام والرأي العام والحكومات بسياسة ضعيفة أو بتهرب من تحديات سورية. سيكون عليه بالتأكيد، صوغ مواقف تمكّنه من الإبحار بين الأمواج الهائجة للسياسات الراهنة. فلا هو قادر على مهاجمة روسيا وانتقادها على تجاوزاتها في سورية بالذات في مطلع عهده، ولا هو جاهز للتظاهر بأن لا شيء يحدث في سورية. بالتالي، الأرجح أن يتناول غوتيريس ملف سورية من نافذة أزمة اللاجئين والمشردين والهاربين من القصف، وليس من باب جرائم الحرب التي تُرتكَب من جانب النظام في دمشق، وروسيا وإيران وميليشياتها إلى جانب المجموعات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» و «النصرة».
سيحاول غوتيريس التركيز على إدخال المساعدات الإنسانية، الأمر الذي يتطلب هدنة عسكرية. سيسعى وراء انطلاقة سياسية جديدة قد تأخذ شكل تعيين بديل عن المبعوث الأممي الحالي ستيفان دي ميستورا، أو شكل الإبقاء عليه شرط تغيير أسلوبه القائم على أولوية إصلاح العلاقة الأميركية – الروسية.
الآن، بعدما ثار غضب كيري وطفح كيل المؤسسة العسكرية الأميركية، بدأت الأمانة العامة تتجرأ وبادرت بريطانيا وفرنسا إلى طرح مشاريع القرارات والأفكار. بان كي مون أعلن أخيراً، أنه سيعيّن لجنة تقصي حقائق في قصف القافلة الإنسانية في ريف حلب. لجنة التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية «جيم»، ستقدم تقريرها الرابع والأخير اختتاماً لأعمالها، ويقال أن الأميركيين حضّروا مشروع قرار حول الخطوة التالية لنتائج التقارير المنتظرة. فرنسا مهّدت للتحرك في مجلس الأمن في مسألة استخدام السلاح الكيماوي على أساس أنها تتجاوز سورية وتطلب من مجلس الأمن مواجهتها من منطلق نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل المحظورة. فرنسا هيّأت أيضاً مشروع قرار في مجلس الأمن يتناول الهدنة في حلب وآلية المراقبة وإدخال المساعدات. وهذه التحركات كلها تلاقي معارضة روسية.
بريطانيا بدأت الحديث عن مرحلة ديبلوماسية جديدة مع روسيا في أعقاب فشل السياسة القديمة التي كانت قائمة لسنوات على توكيل روسيا بالتأثير في النظام في دمشق واستهدفت تغيير تصرف روسيا. لندن لا تتحدث عن مواجهة عسكرية مع روسيا في سورية وهي تعتقد أن هناك مساحة بين التدخل العسكري الكامل وبين انعدام العمل العسكري. بكلام آخر، تتحدث بريطانيا عن تأمين مظلة أوروبية لعمل تركي – خليجي مشترك لإنشاء منطقة حظر طيران ومنطقة آمنة بقيادة تركية. وهذه هي «الخطة ب» التي تحدّث عنها وزير خليجي إلى «الحياة» وفصّلها هذا المقال يوم الجمعة الماضي.
لماذا كل هذه الحركة فجأة؟ بالتأكيد، إن لإبرة البوصلة الأميركية – الروسية التأثير الأول، يليه حجم الجريمة التي تُرتكب يومياً في سورية. إنما هناك معطيات أخرى على نسق الرغبة في التأثير في إدارة أوباما قبل رحيلها كي لا يكون الوقت الضائع بين الانتخابات الرئاسية وبين تسلم الإدارة المقبلة مهماتها فعلياً، فرصة لروسيا للتصرف بلا مراقبة أو عقاب استفادة من عدم القدرة على محاسبتها للأشهر الستة الآتية.
روسيا تراهن على الفترة الزمنية المتاحة، وفلاديمير بوتين يراهن على فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي سيسايره ولن يتحداه في سورية ولا في غيرها. سورية ستدفع ثمناً باهظاً في الفترة الزمنية المعروفة بالوقت الضائع في الرزنامة الأميركية، ما سيستدعي من الأمم المتحدة مواقف ضرورية. لذلك، تسعى بريطانيا إلى استباق مطالبتها بأكثر مما تقوم به كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن بدلاً من الاختباء وراء انهيار الشراكة الأميركية – الروسية في سورية.
المفوض السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد بن رعد، حذّر روسيا هذا الأسبوع، من عواقب تجاوزاتها في سورية، وقال أن الوضع في حلب يتطلب مبادرات جديدة وجريئة «بما فيها مقترحات وضع حد لاستخدام الفيتو من جانب دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن»، وهذا، في رأيه سيمكن الأمم المتحدة من إحالة الوضع في سورية على المحكمة الجنائية الدولية.
كلام زيد بن رعد هو أن «لمثل هذه الإحالة مبرراتها الكافية إزاء هذا المقدار المدهش من الإفلات من العقاب الذي ميّز هذا النزاع وهذا المقدار من الجرائم المرتكبة منها ما يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية».
هذه التركة التي لم تتحقق تتربص بالأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريس. بادئ الأمر سينفذ غوتيريس تعهداته بما تم التفاوض عليه مع روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا قبل التوافق على ترشيحه في توزيع للمناصب الكبرى المهمة كوكيل للأمين العام في الدوائر الحيوية من المنظمة مثل الدائرة السياسية التي يرأسها الأميركي جفري فلتمان وطالبت بها روسيا أقله لسحبها من الأميركيين وربما لإعادتها إلى بريطانيا تقليدياً. إنما لاحقاً، وقريباً جداً، ستلاحق سورية الأمين العام الجديد وسيكون عليه أن يبدأ بصنع تركته عندما يغادر المنصب بعد خمس سنوات ما لم يتم التجديد لولاية ثانية.
قيل عن كوفي أنان أنه كان يتقن الإبحار لأنه كان «تكنوقراطياً»، وعن بان كي مون أنه كان بيروقراطياً بامتياز لأن ذلك جزء من تفكيره وتفسيره المهمات الموكلة إليه. أنطونيو غوتيريس طوى منصباً تلو الآخر بكثير من الحنكة وبمزيج من العزم والحزم والليونة الخلاقة. لذلك، تم التوافق على الاشتراكي رئيس الحكومة السابق في صورة مفاجئة تاركاً النساء والرجال من المرشحين وراءه بمسافات كبيرة. لعل التوافق الأميركي – الروسي عليه تعويض عن المواجهات المستمرة بينهما، ولعله من بوادر التفاهم على تجنب المواجهة والمضي إلى الترميم طالما الإصلاح الجذري للسياسات نحو سورية ما زال مستحيلاً.