ربما، قبل هذا السؤال، لا يخلو من مغزى ذلك الصمت العربي إزاء المذبحة التي يرتكبها في حلب مثلث الاحتلال الروسي – الإيراني – الأسدي. الصمت العربي، بشقّيه الرسمي والشعبي، يحيل في الأول منهما إلى عجز معروف سلفاً، وفي الثاني إلى استسلام لطبيعة السلطة، حيث يبدو من البديهي أن يقوم حاكم بقتل شعبه عندما يثور عليه، الأمر الذي لم تكن له البداهة نفسها عندما كانت تنطلق تظاهرات (على قلّتها) ضد إسرائيل أو ضد الغزو الأميركي للعراق، وبالطبع ضد رسوم استطاعت استنفار المشاعر الدينية.
على أية حال، لم ينتظر السوريون موجة إقليمية من إظهار التعاطف الشعبي لأنهم كانوا إلى وقت قريب في موقع بقية الشعوب، وباستثناء مسيرات التأييد كانوا يخرجون في التظاهرات التي لا يمانع النظام في خروجها. الأمل، ولا يزال وفق منطق القوة، في مجتمع دولي تبيّن أيضاً أننا لا نعرفه جيداً، أو أننا توهمنا وصوله إلى عتبة قريبة من شعارات دأب الغرب على رفعها، وفوجئنا بأنه تخلى عنها خارج أراضيه.
اكتشاف أن المصالح هي ما يحرك الدول ليس جديداً وفق عنوان قاسٍ لحازم صاغيّة «نحن الذين لا وزن لهم في العالم»(«الحياة» في 24 أيلول- سبتمبر 2016)، حيث يطرح التساؤل عما جعلنا هكذا بلا وزن؟ في معنى مشابه أيضاً، كان ياسين الحاج صالح أشار يوماً إلى قدرة نظام الأسد على جعل السوريين «غير مرئيين»، وإذ أتت الثورة ليقولوا «إننا موجودون» فالصمت الدولي إزاء المقتلة السورية فاقم مرارة هذا الوجود، فضلاً عن حالات تنميطه بالإرهابي أو اللاجئ.
قد يُقال كلام كثير ومحق عن أخطاء ارتكبتها المعارضة وأساءت إلى القضية السورية، لكن مجمل الأخطاء لا يوازي غياب المصالح الأميركية تحديداً، وعندما اقتضت تلك المصالح محاربة «داعش» أتى التدخل ولا يزال مستمراً. العبرة هنا ليست فقط في أن الأسد لا يهدد الغرب على منوال «داعش»، فصدام حسين لم يرسل الانتحاريين إلى الغرب، وكان يمكن الاستمرار في محاصرته بعد طرده من الكويت. هذا إذا لم نأخذ في الحسبان العلاقة السببية بين نشأة «داعش» ومجمل السياسات الأميركية في العراق، وإذا تغاضينا عن حقيقة وجود «داعش» كقوة احتلال في سورية، وإن اكتسب بعض المتقاتلين المحليين على خلفية ما يُعرف بالصراع الشيعي- السني.
في لغة المصالح، يكفي أن يتّقي الغرب عبء لاجئينا وشر إرهابيينا، عندما تفقد المنطقة أهميتها الاستراتيجية العامة. وإذا تطابقت المصالح عموماً مع تراتبية القوة، فلا شك في أن التراتبية المحلية لها تُختزل في قمة الهرم، بحيث تكون القاعدة مجردة تماماً من عناصر القوة. هكذا، عبر عقود يقدم المثل السوري نموذجاً عن احتكار النظام الفضاء العام، فتتحول الكتلة الساحقة من السوريين إلى لا مرئيين وعديمي وزن، بينما يأخذ النظام وزنه مما سلبه، ويصبح القوة الوحيدة القادرة نسبياً على التفاوض مع مراكز القوى الدولية والإقليمية.
الانفصال العام عن الغرب، الذي بدأ تحررياً، استمرت قاعدته الأيديولوجية فاعلة عموماً عبر مستويات عدة. فالفكر القومي معادٍ للغرب كأن التحرر لم يُنجز، واليسار كان مشرقياً وغائباً عن تحولات اليسار الغربي، أما التيارات الإسلامية فلم تكن أحسن حالاً، إذ جمعت بين عداء الفكر القومي للغرب وتكفيره. السياسات الغربية إزاء القضية الفلسطينية تكفّلت أيضاً بجمع كل التيارات، سواء كانت تلك ذريعة لتبرير العداء أو كانت أحد مصادره.
الأهم أن الأيديولوجيات السابقة، على صراعاتها البينية، لا يمكنها من حيث الجوهر إلا أن تكون مناهضة للغرب، وأن تتفق على منع نشوء تيار ليبرالي يطمح إلى شراكة مع الغرب، بعد إجهاض بشائره الأولى عبر انقلاب «البعث». وإذا لم يكن لدى الإسلاميين اعتراض على الليبرالية الاقتصادية فهم بالتأكيد ليسوا مع تبعاتها الفكرية. بهذا المعنى وحدهم الإسلاميون كانت لهم حصة من قوى اقتصادية، لكن تلك القوى كانت تجارية على الغالب، وتعين جزء من تجارتها استثماراً ريعياً في الرأسمال الرمزي الديني، ولم تنتج رأسمالها الرمزي الخاص أسوة بالبرجوازية الغربية.
في حدّ ذاتها، كلمة «الليبرالية» كانت في مثابة تهمة من نظام قرر احتكار ما تطاوله من اقتصاد وحريات، وأيضاً من جانب أيديولوجيات وقوى سياسية هامشية الحضور. الحال تغيرت قليلاً في العقدين الأخيرين، مع شيوع أدبيات ليبرالية في صفوف معارضين ومثقفين سوريين، لكن زمرة النظام بحكم أموال الفساد، احتكرت أيضاً العلاقة المحدودة مع بعض الاقتصادات الغربية. وفق منطق القوة والمصالح، كان النظام هو الأقدر على الشراكة مع الغرب، على رغم إبقاء رفضه المطلق تبعات الليبرالية، بخلاف أولئك الذين لا وزن لهم وإن أصبحوا أقرب إلى المنظومة القيمية الغربية.
ما يحدث اليوم، في حال لم تظهر مفاجآت، يكاد أن يكون استعادة أسوأ للقطيعة مع الغرب، مبتدأها من الغرب نفسه، وتنتعش مجدداً في أوساط الذين أقلعوا عن القطيعة معه. الغرب، في مرآة المذبحة السورية، غير أخلاقي وغير وفيّ لقيمه ذاتها، وكما انحاز سابقاً إلى إسرائيل ها هو يفضّل بقاء الأسد على تحول ديموقراطي. الشراكة الوحيدة المطروحة من الغرب هي في محاربة الإرهاب، وهذا المجال (القذر والعنيف بطبيعته) مفتوح لمقاولات لا وجود فيها لمن «لا وزن لهم»، ما يضمن مجدداً ألا يكتسبوا وزناً وفق المعطيات الحالية.
الخبر السيء أنّ تجدّد القطيعة مع الغرب يهدد بأن تكون جوهرية أكثر من السابق، بخاصة مع تركيز ظاهر الخطاب الغربي على مواضيع مثل حماية الأقليات، في وقت تُباد الأكثرية بموجب تقسيمه، وفي وقت لم يكترث بتمكين مَنْ عادوا ليصبحوا أقلية صغيرة بالمعنى السياسي، أي أولئك الذين تبنوا قيم الديموقراطية. محلياً، عنت التطورات السورية، مشفوعة برضا أميركي، تفضيل نزع قوة النظام وذهابها إلى موسكو وطهران على ذهابها إلى سوريين حاولوا استرداد أوزانهم. الوضع الجديد سيكون أدهى من سابقه، إذا بقي الغرب على رغم القطيعة التحررية السابقة، موضع إلهام أو حسد، الآن ربما لا يبقى سوى الحسد المقرون بالنقمة.