مَن يُتابع القصف الروسي لمدينة حلب ويرى أطفالها يُدفنون تحت الأنقاض، يُلاحظ أن وراء الإصرار الروسي على هذا النوع من التصعيد العسكري ما هو أبعد من إسقاط المناطق الشرقية من المدينة التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة، إذ تبرز دوافع نفسية وراء هذا الكم من إرادة التشفي من حلب، كما لو أن على كاهل أطفالها تقع مسؤولية هزيمة السوفيات في أفغانستان، أو حرب الشيشان، أو مسؤوليتهم عن خسارة الروس حربهم الباردة مع الغرب.
وما استدعاء أدوات التدمير الشامل إلى أكبر مدن سورية وأعرقها امتداداً في التاريخ، إلا دليل على أن الآلة العسكرية الروسية تهدف إلى فرض هيبتها واستعراض قدراتها في التعاطي مع شعوب المنطقة والدول المحاذية لها على حد سواء إن هي حاولت التصدي للإرادة الروسية، وكأن المطلوب من حلب أن تكون درساً لمن يقوى على مجرد التفكير في ذلك.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ بعد الاتفاق الذي لم يُكتب له النجاح مع الولايات المتحدة، تحسنت ظروف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقويت مبرراته أيضاً، فمن وجهة نظره قدّم فرصةً للحل وأعطى مجالاً للهدنة العسكرية ووافق بشروطه على إدخال المساعدات الإنسانية التي عاد وأحرقها على أبواب المدينة، والوقت الآن هو للحسم وتحقيق الأهداف. الروس كانوا واضحين منذ البداية، فهم لديهم أهداف محددة في سورية لم يأتوا إلا لتحقيقها، وإذا عجزوا بالسياسة فلن يترددوا في استعمال كامل طاقتهم الحربية.
فتثبيت حضورهم القوي في سورية يشكل معبرهم إلى نظام دولي يتنافسون فيه مع الولايات المتحدة. وفي وعي الروس وثقافتهم فإن سلامهم الداخلي يتلازم حُكماً مع فاعلية خارجية، فروسيا كلما قويت في الخارج انتظمت قوتها في الداخل والعكس صحيح أيضاً. وهذا ما تثبته الحقائق، إذ على رغم التراجع الاقتصادي الذي تسببت به سياسات بوتين في روسيا فقد حقق حزبه انتصاراً كبيراً في انتخابات مجلس الدوما أخيراً تجاوز نتائج 2011 عندما كانت روسيا تنعم بطفرة اقتصادية.
لكن ريثما يُعيد النظام الدولي توازنه، فالوقت لا يزال يعاكس رغبة السوريين في التحرر من نظام الأسد ومشروع إيران، تضاف إلى ذلك حالياً طموحات روسيا، وذلك بعدما فشل المسار المشترك مع الولايات المتحدة الذي أعقب هجوم نظام الأسد بالسلاح الكيماوي على الغوطة في آب (أغسطس) 2013.
والواضح أن جملة مسائل نقلت المشهد السوري إلى مستوى آخر يستمر حتى قدوم إدارة أميركية جديدة، حينها قد يصبح الفراغ في سورية مضاعفاً لا تقوى على ملئه إلا سياسة إقليمية تضع حداً للتراخي في مواجهة روسيا. طبعاً هناك إمكان لذلك، وما قامت به تركيا أخيراً قد يُحفز المبادرات الإقليمية بهذا الاتجاه، إذ لا يُمكن أن تُترك المعارضة السورية وحدها في هذه المواجهة وهي التي تحارب بالوكالة عن شعوب المنطقة كلها.
صحيح أن ضغطاً هائلاً يأخذ الولايات المتحدة باتجاه التخلي عن لعب دور الشرطي على الساحة الدولية باعتباره دوراً قد يؤدي إلى أكلاف بشرية قررت إدارة أوباما التوقف عن دفعها واستخدام الديبلوماسية والقواعد الدولية كوسائل لتسوية النزاعات، وهو ما «لا يتمتع بشعبية واسعة» وفق خطاب الرئيس الأميركي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لكن في المقابل وبغياب قانون دولي قادر على حماية المدنيين، فإن عالماً بلا شرطي يفترض على الأقل عدم ترك اللصوص يسرحون فيه!
طبعاً، الضياع الأميركي على المستوى الاستراتيجي كان بادياً، وأوباما كان يغرد وحيداً حين اعتبر أن لا حرب عالمية في الأفق على رغم أن «روسيا تحاول استعادة مجدها الضائع بالقوة». وفي الوقت ذاته، كان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، يعتبر أن فرض إقامة منطقة حظر جوي قد يؤدي إلى نشوب حرب مع روسيا، وزاد وزير دفاعه آشتون كارتر أنه بات على قناعة تامة بأن روسيا أصبحت تشكل تهديداً جدياً لمصالح الولايات المتحدة على الساحة الدولية.
فجوة أوباما الدولية يملأها بوتين بإعلانه أن «دروس التاريخ تشهد على أن إحلال السلام في العالم لا يتحقق تلقائياً». وعلى رغم أنه لا يحاسبه على أفعاله، فللرئيس الروسي عداوة مستدامة مع النظام الدولي، وهو نظام لا يستوي، بفَهمِه، إلا إذا تعطلت قيمه وآليات محاسبته وأُطلق العنان لأوتوقراطييه في قمع شعوبهم بالوسائل كافة.
الانتصار الروسي في معركة حلب يعني الكثير لبوتين، أتخيل ماذا سيفعل على أنقاض مدينة الطفل عمران، بعد تدميرها وإن كان سيأتي بأوركسترا مارينسكي الروسية، لتعزف ألحان الموسيقي الألماني باخ كما فعلت على خشبة مسرح تدمر الأثري (وقد سبق للفرقة ذاتها أن عزفت في مدينة تسخينفال عاصمة أوسيتيا الجنوبية، بعدما دخلها الروس عام 2008).
هنا تتكامل الرغبة في التشفي من حلب والمعارضة السورية مع الحاجة إلى تعويض سيكولوجي عن مرحلة الانكفاء الروسي عن الساحة الدولية.
عقدة حلب بالنسبة إلى بوتين تشبه عقدة غوردييه، وهو الحبل الذي ربط به ميداس عربة والده الملك غوردياس التي قطعها الاسكندر الأكبر بسيفه بعدما عجز عن فكها بيديه إذ لم يجد طرفاً للحبل. وقد تنبأ العرافون بأن مَن يحل هذه العقدة سيكون فاتح آسيا، وبالفعل فقد فُتحت أمام الاسكندر (ابن الملك فيليب) أراضي القارة وصولاً إلى نهر السند.
طبعاً لا يعتمد الرئيس الروسي على العرافين في قضاياه الاستراتيجية، لا سيما أن الذين شجعوه على الدخول إلى سورية، ومنهم خامنئي، لديهم خبرة كبيرة في فتح المدن والعواصم الشرق أوسطية بكثير من الطرق والوسائل!