مع أن مأساة سوريا تستعصي على الظرف، تذكّرني محنة الشعب السوري مع موسكو وواشنطن بنكتة موجعة سمعتها عن حلاّق حريص على أن يرث ابنه مهنته، لكن الولد لا يهوى الحلاقة ولا يريدها مهنة. وذات يوم أجبر الحلاق ابنه على حلاقة ذقن زبون بينما كان منهمكا مع آخر. وفجأة صرخ الأول فسأله الحلاّق عما به وعلم أن الولد جرحه.. ولشدة غضبه من ابنه حاول لطمه لكن الأخير رجع إلى الخلف فأصابت اللطمة الموجعة الزبون المسكين. واستأنف الابن الحلاقة لكنه سرعان ما ألحق بالزبون جرحا ثانيا، ومجدّدا همّ الحلاق بلطم ابنه لكن الابن تفادى اللطمة وأصيب الزبون.
وتكرّرت عذابات الزبون بين جروح الابن ولطمات الأب إلى أن قطع الابن أذنه وبادر إلى الاعتذار منه، فرجاه الزبون همسا أن يرميها بسرعة في سلة المهملات قبل أن يراه أبوه.. تفاديا للطمة أشدّ إيلاما!
هذا الوضع يصدق اليوم على القصف الروسي الوحشي لحلب، مقابل الاستنكار اللفظي من واشنطن و«تلويحها بوقف التعاون مع موسكو»!! فبينما يموت السوريون.. يقصف الروس ويوفّرون التغطية السياسية لجرائم بشار الأسد و«يحرد» جون كيري ويلوّح بوقف التعاون..
إنها لوحة سيريالية مأساوية بشعة تدلّ ليس فقط على انهيار المعايير الأخلاقية في السياسة الدولية، بل تشير أيضا إلى أن المنطقة العربية مقبلة على كارثة، وإلى أن ما اصطُلِح على تسميتها «الحرب على الإرهاب» تُدار بطريقة مخالفة للمنطق وتتجاهل عمدا جذور المشكلة وتغيّب أعراضها.
إن السكوت «المتفاهَم» عليه إزاء تدمير ما تبقى من مدينة حلب وتهجير أكثر من نصف أهلها مقدمة لإعادة تسليمها لنظام الأسد برعاية روسية – أميركية فرضت الصمت حتى على تركيا، يتكامل مع التحضيرات لتحرير الموصل أمام خلفية مشهد عراقي خطير.
ومن ثَم، فتركيز الاهتمام على ظاهرة «داعش» و«جبهة النصرة» بمعزل عن التعقيدات المحيطة بالصورة العامة للمنطقة، بكل تشابكاتها الأمنية والسياسية والعرقية والدينية والمذهبية، لن يؤدي إلا إلى «حل» مؤقت يخدم إدارة أميركية أتقنت ترحيل تبعات تقصيرها ومصالحها القصيرة الأمد إلى الإدارات التي ستليها، وقيادة روسية تسلّطية لا تقيم وزنا لا لحقوق الإنسان ولا المجتمع المدني ولا مفاهيم الديمقراطية ولا التفاعل بين الشعوب.
وبالأمس اعتذر الرئيس الأميركي باراك أوباما من الأسد على قصف عسكرييه في دير الزور، واستقبل رئيس وزراء العراق حيدر العبادي ليدعم علنا خططه لـ«تحرير» الموصل. وكان واضحا، قبل اللقاء وبعده، تأييد أوباما الكامل لسياسة بغداد التي ما عاد سرّا أنها تُصاغ في طهران. بل إن العبادي نفسه هو الذي كان قد أعلن صراحة أن قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» وقائد عملياته في سوريا، يعمل «مستشارا» للحكومة العراقية.
ثم إن معظم الجهات المتصلة بالوضع الداخلي العراقي، وفي مقدمتها الهيئات المهتمة بحقوق الإنسان، تربط ميليشيات «الحشد الشعبي» وتجاوزاتها الطائفية بـ«الحرس الثوري الإيراني»، ومع ذلك تتصرف حكومة بغداد وكأنها آخر من يعلم ويكترث.
وأخيرا وليس آخرا، دافع الرئيس أوباما وفريقه طويلا عن سلبيتهم تجاه سوريا، بـ«فشل التدخل في العراق» الذي انتهى بتدمير الدولة وسقوطها مفتتة في أحضان إيران. ومع هذا، بعد الاتفاق النووي مع طهران، صارت العلاقة معها «ثابتا» في سياسة واشنطن الشرق أوسطية، فسكتت عن تدخل الميليشيات الإيرانية ميدانيا في سوريا وهيمنتها على العراق ولبنان، وبات «التدخل الفاشل» لجورج بوش الابن في العراق الأرضية التي بُنيت عليها سياسة إدارة أوباما على امتداد المنطقة.
في ضوء هذه المعطيات غدا ضروريا التساؤل: إلى أين ستتّجه المنطقة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في الأسبوع الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؟ وهل سيواصل مَن يخلف أوباما (أو تخلفه) السير في خطه بصرف النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات على اعتبار أن التغيير الذي طرأ منذ سريان مفاعيل الاتفاق النووي كبير جدا، وأن عملية إعادة تأهيل إيران أميركيا قطعت شوطا بعيدا بالتوازي.. مع تغلغل مُناصري إيران في أروقة الكونغرس والإعلام ومراكز الأبحاث وشبكات المصالح المالية.
متابعو حملة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون رصدوا منذ بعض الوقت تشكيلها فريق مستشاريها لشؤون السياسة الخارجية، وبين الأسماء التي يتوقع أن يكون لها صوت مسموع بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي والإرهاب: جايك سوليفان وفيليب غوردون ولورا روزنبرغر، بالإضافة لشخصيات مخضرمة مثل مادلين أولبرايت وليون بانيتا. ويرى المتابعون أنها لن تتبنى بالكامل كل سياسات أوباما، بل ستوازن بين النظرة المصلحية العملية التي اعتمدتها الإدارة الديمقراطية في عهد بيل كلينتون والنظرة العقائدية الانكفائية – بل الاعتذارية – التي تبناها أوباما. ولكن وجود سوليفان وغوردون بالذات ضمن الفريق لا يشجع على التفاؤل. فالأول شكّل مع وليام بيرنز (نائب وزير الخارجية) وبونيت تالوار (مستشار الشؤون الإيرانية) «ثلاثي» فريق المفاوضات السرّية مع إيران في مسقط وكان أحد مخطّطي سياسة واشنطن في سوريا وليبيا وميانمار (بورما). والثاني من «ثوابت» سياسة أوباما الشرق أوسطية الكارثية ولا سيما تجاه سوريا، والاثنان – مع زميلهما بن رودز – مقرّبان من لوبي «ناياك» الإيراني في واشنطن.
وعلى الضفة الأخرى، هناك فريق المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي يضم مجموعة من الشخصيات اليمينية المتشدّدة، والبعض منها مناوئ لتمدد نفوذ إيران لكنه أيضا مناوئ للمسلمين عموما. وبين الأسماء الأبرز جورج بابادوبولوس والأكاديمي اللبناني الأصل وليد فارس. الرجلان مهتمان بقضايا الشرق المتوسط وينتقدان بشدة «انسحاب» أوباما من المنطقة، وفي حين سبق للأول أن نصح إسرائيل عام 2015 «بالتعاون مع روسيا من أجل أمنها، وكذلك مع سوريا ولبنان وربما مصر»، تتهم الجماعات الإسلامية الأميركية الثاني بـ«الإسلاموفوبيا».
وهكذا، فنحن العرب أمام «معلوم» ديمقراطي مؤسف و«مجهول» جمهوري مقلق. وحالنا كلنا أضحى كحال السوريين، وبالأخص حلب، مع «حلاٌق واشنطن» الذي يضرّ حتى عندما يريد أن ينفع!