لا بأس، الاتهامات مجانية ومباحة للجميع، ويستطيع من يشاء اتهام سوريين بالانفصال عن واقعهم، أو التقصير إزاء قضيتهم، أو حتى التخلّي عنها نهائياً. يستطيع من يشاء التركيز على نواقص هذه المعارضة وعيوبها، واعتبارها سبباً في بقاء النظام. ويستطيع من يشاء اتهام الآخرين بعدم فهم توجهات القوى الدولية، كأنه ضالع في دهاليز صناعة القرار، ويعرف تلك التوجهات مسبقاً. باب المزايدات مفتوح على آخره، ولا أسهل من قضية تبدو خاسرة للدخول من بابها، والتبرؤ من تبعات الخسارة. لا أسهل أيضاً من غض النظر عمّن يُعتقد أنه ربح الحرب، طالما كان الرضوخ للأقوى مبعثاً للسكينة التي تتلطى خلف ادعاء الواقعية.
لن نفترض نجاح الثورة في إسقاط بشار الأسد قبل أربع سنوات، لو كانت المواجهة سورية فقط، ولن نتخيل بناءً على هذا السيناريو ما سيقوله أصحاب اتهامات اليوم، فهذا الافتراض لا ينتمي إلى الواقع. ثم إن الواقعية تقتضي حقاً تسمية الخاسر، مثلما تقضي بأن المتفرج لا يخسر شيئاً، ويتخذ وضعية المتعالم المتعالي الملمّ بأسباب الخسارة منذ البداية، مع افتراض دائم بتهميش رأيه الصائب.
لا ضوابط تمنع الاسترسال في إنشاء من قبيل أن السوريين أضاعوا وطنهم، أو أعطوا العالم ذرائع ليتخلى عنهم، سواء صدر هذا الإنشاء عن سوريين أو غيرهم. تعميمات من هذا القبيل تهمل ما يقوله أصحابها أنفسهم عن توجهات دولية سابقة على الثورة، وتهمل التدخل الخارجي الذي بدأ فعلاً منذ العام الأول للثورة. أي أن الثورة، بوصفها صراعاً داخلياً، اضطرت منذ البداية إلى التعايش مع الصراع على سورية. غير أن أسوأ ما في تلك الأقوال استسهال التعميم، حيث يضمن إلقاء المسؤولية على العموم التنصلَ من وضع اليد على جذور المشكلة والإشارة إليه.
يتناغم هذا تماماً مع انتقاد جون كيري نظيره الروسي أخيراً، في مجلس الأمن: «كيف يمكن البعض الجلوس إلى الطاولة والتحدث فيما النظام السوري يقصف شعبه بالكيماوي؟».
فهنا سجال لا يرى المشكلة في السكوت عن استخدام الكيماوي، بوصفه مسؤولية جماعية، بموجب المواثيق الدولية، وإنما المشكلة في نقص حياء المسؤول الروسي المدافع عن النظام. المشكلة وفق كيري، في الحماية الروسية لبشار، لا في موقف إدارته الذي لا يدفع في اتجاه تطبيق الاتفاقات الدولية، ومنها اتفاق حظر الأسلحة الكيماوية الذي التزم النظام بموجبه إزالة ترسانته كاملة ثم خرق تعهداته، وليست في ضغط إدارة أوباما على الكونغرس ومنع التصويت على عقوبات جديدة بحق النظام وداعميه.
تحويل القضية السورية مجرد قضية سجالية هو المشترك في العديد من النقاشات الدولية والإقليمية والسورية، وهذا اللغو غير بريء طبعاً من الغايات السياسية التي تكاد تتلخص إبقاء على النظام والوصول إلى تسوية تعفيه من مسؤولياته عن جرائم الحرب والإبادة. جوهر القضية السورية هنا، في تغييب العدالة على الإطلاق، وفي حشد المؤثرات الثانوية كافة لتبرير لا أخلاقية مجمل السياسات المحيطة بالسوريين.
اليوم، حيث يلوح في الأفق تفاهم أميركي – روسي على تصفية القضية السورية، وحيث يستقوي كل من يريد الإبقاء على النظام بهذا التفاهم ويعتبره الخاتمة، في هذا اليوم أكثر من أي وقت مضى يلزم تأكيد أن وجود سورية بلا عدالة وهم. مثلما ينبغي تأكيد، بلا كلل ومن دون القول أن هذا معروف سلفاً، مسؤولية النظام برموزه وأركانه عن جرائم كبرى ضد الإنسانية تستدعي محاكمته، أو على الأقل تنحيته ضماناً لعدم إيغاله في الجريمة.
رحيل بشار هو العنوان من أجل سورية يتحقق فيها قسط من العدالة مع المصالحة، ومن دون رحيله لن تتحقق المصالحة، وسيأخذ العالم كله درساً في انعدام العدالة واعتماد منطق القوة. القول بأن العالم خضع دائماً لمنطق القوة، لتبرير ما يحدث الآن، قول تعوزه الدقة والأخلاق، إذ وفقه لا معنى لنضال البشرية طوال تاريخها من أجل عالم أعدل، ولا مبرر حقاً لوجود كل المواثيق والهيئات الدولية، ولا معنى بالتأكيد لكل المناشدات القديمة والحديثة كي تضطلع الهيئات الدولية بواجبات أكبر تجاه الشعوب، وكي تتحمل الدول الدائمة العضوية مسؤولياتها إزاء السلم الدولي.
من المؤكد أن سوريين كثراً يعرفون إمكاناتهم المتواضعة، ويدركون عدم قدرتهم على تغيير العالم، وربما يدركون عدم قدرتهم على تغيير النظام طالما حظي بقاؤه بقبول دولي. لا أوهام على هذا الصعيد، لكن لا ينبغي لاستضعاف السوريين الدفع في اتجاه اعتبارهم لا شيء على الإطلاق، هذا وهم لا تقل غطرسته عن وهم حكم الأسد الذي حاول محو السوريين خلال عقود، وفوق ذلك هو وهم محو جرائمه بالتقادم، على رغم أنها جميعاً لا تنتهي بالتقادم وفق القوانين الدولية.
إنذار السوريين باحتمالات أسوأ لن يجدي، وهو تجاهل مقصود أصلاً لمطلب التحول الديموقراطي الذي يُناط به تقرير البديل، فضلاً عن أن الأسوأ سيحدث في نظام الشبيحة ذاته، وهو باشر حقاً التهام حيوات مواليه وممتلكاتهم عندما لا يجد ما يأكله. في الواقع، هناك سوريون خسروا كل شيء ضريبةً لوقوفهم مع الثورة، وهناك سوريون خسروا وسيخسرون ثمناً لوقوفهم وراء النظام، أي أن الاحتمالات الأسوأ لن تقتصر على طرف واحد. لهذا السبب تحديداً، ثمة من يطالب باقتناص الفرصة والقبول بتسوية مجحفة، ومع أن خسارة الجميع ليست مكسباً إلا أن هذه ليست حكمة تقال لمن أريد له الوصول إلى اليأس.
إذا افترضنا أن اللحظة الحالية مفصلية، بمعنى أنها لحظة تأسيسية حقاً، فقد يكون ضرورياً التذكير بما انكشفت عنه هشاشة سورية السابقة، وهشاشة أي تجربة مشابهة. فحيثما كان هناك انعدام للعدالة لم يبقَ من الوطن ما يغري بالدفاع عن بقائه. لقد دافع الأسديون عن امتيازاتهم، وكان أسهل عليهم تقاسمها مع المحتل من تقاسمها مع سوريين آخرين، هذا واحد من دروس الاستبداد. الآن، قمة الفاشية أن يُطلب من السوريين الخضوع لنظام امتيازات مركّب تحت أي عنوان، بما في ذلك التلطّي وراء «الحفاظ على البلد». كما نعلم، في السياسة لا في الأخلاق فقط، ثمة توصيف واضح لمن لا يكترث بحيوات الناس تحت زعم الاهتمام بالبلد.