أرسل الإخوان المسلمون إلى الرئيس السوري، مع بدء الثورات في مصر وتونس، رسالة يقولون فيها إن الثورة قادمة إلى سورية كذلك، ويمكننا أن نشكل قيادة مشتركة، ونتفادى الكثير، ونغلق باب الثمانينيات ونتحكم بالشعب سوية. رفض النظام كعادته، وقد أصبحت البلاد له، منذ الثمانينات وربما بفضل “الإخوان”، وألغى كل أشكال الحريات وأحكم قبضته على البلاد، ووضع اليسار واليمين في السجون، وأصدر نصاً دستورياً بإعدام كل من ينتمي لجماعة لإخوان المسلمين. ومع رفض النظام الرسالة، كما كتب حمزة المصطفى في مقالته في “العربي الجديد، 14/9/2016” (إخوان سورية: ضرب على طبلة قديمة). بدأ “الإخوان” يعدّون العدّة لمواجهة النظام وللسيطرة على الثورة؛ فكان لهم دور بارز في صفحة “الثورة السورية ضد بشار الأسد” الإلكترونية، والتنسيق مع دول إقليمية عديدة، وتجديد صلاتهم مع الساسة الأوربيين ومع الأميركان.
قبل ذلك كله بسنوات، وحينما اتفقت أقسام كبيرة من المعارضة السورية على إعلان دمشق 2005، وتحمّلت هذه المعارضة عسف النظام والسجن في الداخل، ودعت “الإخوان” ليكونوا جزءاً من الإعلان، تركوه، حينما انشق عبد الحليم خدام وشكلوا جبهة الخلاص 2006 ضد النظام، ولاحقاً امتنعوا عن إبداء أي موقف ضد النظام، حينما وقف مع غزة ضد إسرائيل 2008، وكانت تركيا تلعب دور الوسيط بينهما، ليتجاوز النظام موقفه المتشدّد ويتقبل “الإخوان”، غير أنه بقي على موقفه، على الرغم من كل محاولاتهم التفرّد معه بالسلطة، وعلى حساب بقية القوى السياسية المعارضة والشعب.
عقد “الإخوان” اجتماعهم الخاص في 2011، ثم اشتركوا مع “إعلان دمشق” نفسه، والذي وثق بهم مجدّداً، في المجلس الوطني السوري، وساهموا في إفشال تشكيل هيئة تشمل كل القوى السياسية، فتشكلت هيئة التنسيق، والتي كان لها دور أيضاً في إفشال تشكيل هذه الهيئة. ودخلوا كل مؤسسات الثورة تحت أكثر من مسمى، أو بتحالفات ضمنية، ليشكلوا هم وشركاؤهم القوى المسيطرة على تلك الهيئات. وفي الوقت عينه، شكلوا منظماتهم الإغاثية وفصائلهم العسكرية، وقدموا دعماً مالياً كبيراً، وساهموا في تحويل مؤسسة الثورة الشعبية إلى مؤسساتٍ سياسيةٍ إسلامية. وبذلك، تلاقوا مع النظام في تطييف الثورة، وفي القول إنها إسلامية.
وحينما رفض الشعب السوري العسكرة في بداية الثورة، وقد حاول النظام ذلك من دون كلل، عمل “الإخوان” من أجل العسكرة. ولاحقاً، ومع اشتداد القمع الممنهج من النظام، شكل الشعب فصائله المحلية والوطنية لحماية المظاهرات، وعمل “الإخوان” بعقلية الانتقام من النظام، فهو من أجهز عليهم في الثمانينيات، وهو من رفض كل محاولاتهم للحوار معه وإشراكهم في السلطة، كما حال مصر والمغرب والأردن. كانت العسكرة خياراً للدفاع عن النفس، لكنها بالنسبة لـ “الإخوان” كانت ضرورية من أجل جلب التدخل الخارجي وإسقاط النظام، كما تم في ليبيا والعراق وهكذا؛ أي لم يثقوا بقدرات الشعب لإسقاط النظام.
لم تكن أميركا يوماً بصدد التدخل العسكري في سورية، وتخوفت تركيا من تدخل واسع، من دون غطاء أميركي، وقد رفضت وصول صواريخ مضادّة للطيران، وحذرت السعودية وتركيا وقطر بشأن ذلك، ما سمح للنظام ليأخذ وقته، ويُدخل إيران وحزب الله ومليشيات طائفية كثيرة، وحينما فشل في منع تقدم المعارضة واحتمال سقوطه، ولا سيما في أغسطس/ آب 2015، تدخلت روسيا. وبذلك أصبح من أكبر الأوهام أن الثورة ستنتصر، فلم يعد من خيار آخر لسورية إلا الحل السياسي؛ وهذا وفقاً للرؤية الروسية التي هي في عداءٍ مستحكم ضد أي مشروع إسلامي مستقل عنها. وبالتالي، هناك خسارة كبيرة في أي حل سياسي للإخوان المسلمين، عدا أن دولاً ومنظمات سورية كثيرة لا مصلحة لها بالحل السوري وفق الرؤية الروسية. يريد “الإخوان” الاستثمار هنا؛ فالشعب أيضاً لن يتقبل حلاً سياسياً لا ينصفه، وإن تقبل بسبب همجية الحرب وكوارث التهجير وأسباب كثيرة، فإن ثورته ستتجدّد، حالما تبدأ مرحلة الاستقرار، فروسيا وكل من سيكون له دور في تشكيل النظام المقبل لن ينصف أهداف الثورة السورية. وبالتأكيد، سيتم استبعاد حقوق الشعب الثائر من كعكة النظام المقبل.
يقرأ “الإخوان”، كما اعتادوا اللعب، اللحظة السياسية جيداً. وسواء فشلت الهدنة أو صمدت وجلبت خلفها مفاوضاتٍ وحلاً سياسياً، فإنهم أعلنوا، أخيراً، التفكير بالانسحاب من كل مؤسسات الثورة. وبذلك، يهيئون أنفسهم للعب دور مستقبلي شعبي أكبر، ويعوّضوا خساراتهم التي مُنيوا بها، بسبب ظهور قوى إسلامية منافسة، وأقوى من حركتهم، مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام وفصائل عسكرية إسلامية بعيدة عنهم، وكذلك وجود جهاديات تكاد تكفرّهم. إذاً هناك تخطيط سياسي لمستقبل ما بعد المرحلة الانتقالية، فتركيا وروسيا ستنسقان مع أميركا من أجل الحل، وهذا سيهمش “الإخوان”، حيث لن يقبل الروس وجوداً قوياً لهم، ومن جهة أخرى سيسمح بدعم جزئي سري لهم من تركيا أو أميركا أو دولة أخرى.
إذاً، سيكون “الإخوان المسلمون”، وحينما ستبدأ المفاوضات، خارج المعارضة السورية، وسيتركون الأخيرة تغمّس أيديها في حبر نصوص المفاوضات والاتفاقيات السياسية، والتي ستكون ظالمةً للثورة وللسوريين، وتتجاهل أنهار الدماء. سيبدو “الإخوان” بانسحابهم وكأنهم هم من بقي مع الثورة، ولم يفرّطوا في حقوق الشعب؛ هذا اللعب صحيح في السياسة، وهو حق لكل قوة سياسية. مشكلة هذا التنظيم أنه يتوهم أن هناك أكثرية شعبية ستصطف معه، حالما تبدأ مرحلة الاستقرار. وبخصوص هذا الأمر، يحسن أن يسمعوا أن الشعب عايش كل سياسات “الإخوان” من تسليح وتمويل وإغاثة، وكانت جميعها مشروطة، ومن أجل تشكيل أتباع وحراك يقطفون ثمنه في السياسة. لم يثر السوريون من أجل “الإخوان”، وكانوا ينتظرون دعماً غير مشروط، وبتحقق الدعم المشروط، فإن هناك كراهية عميقة ضد ليس النظام فقط، بل وكل الحركات الإسلامية والجهادية والتدخل الإقليمي والدولي.
على “الإخوان” التخلص من الانتهازية السياسية، فهم كانوا أساسيين في كل تشكيلات المعارضة السورية، والمساهمة في كل ما تتعرّض له المعارضة، ائتلافاً وهيئة تفاوض، رفضاً للضغوط أو موافقة عليها، أو موافقة ووضع اشتراطاتٍ تخص المفاوضات والحل السياسي. “الإخوان” معنيون بالتخلص، ليس فقط من الانتهازية، بل وكذلك من التطييف الذي عملوا له، منذ بداية الثورة خصوصاً، وشاركوا بقسطهم الكبير مع النظام بذلك. وربما ستحولهم محاولاتهم المرغوبة هذه إلى حركةٍ وطنيةٍ، كحال حركة النهضة في تونس، وهي تحاول أن تفصل بين الدعوي والسياسي والتحالف مع القوى السياسية الأخرى في إنقاذ تونس من الجهادية والسلفية. .. هل يعي “الإخوان” ما فعلوه بسورية، وما يجب أن يفعلوه ليصبحوا حركة وطنية لا حركة ثأرية. الإجابة مفتوحة.