محمد قطيفان – درعا
يتذكر أبناء درعا، أسماء عديدة مرت على فصائلهم، وشاركت بجانبهم في معارك “التحرير“، لم يكن أصحاب هؤلاء الأسماء من أبناء المحافظة، ولكنهم اختاروا الثورة في درعا. هم ليسوا من “المهاجرين“، بل سوريون، اختار بعضهم البقاء في درعا طوعًا واختارها آخرون قسرًا، بعضهم ضحى بدمه، ودفن في ثرى حوران، وآخرون مازالوا على ذات الطريق، فمن هم هؤلاء، وما هي قصصهم؟
الملازم أحمد اصطكناوي، من محافظة إدلب، والرقيب عامر التركماني، من محافظة حمص، انشقا عن قوات النظام بعد أشهر قليلة على انطلاق الثورة في محافظة درعا، رافضين المشاركة في قمع المتظاهرين، لم يلبث أحمد طويلًا حتى ساهم في تأسيس وقيادة كتائب الجيش الحر في مدينة درعا، وكان له الدور القيادي في معارك تحرير عديدة في درعا البلد، بينما شارك عامر كمقاتل في أكثر من معركة، قبل أن يلتحق بإحدى مدارس مدينة درعا كمدرّس للطلاب وسط الشح الكبير بأعداد المدرسين.
شيّع أهالي درعا الملازم أحمد في شباط 2014، إذ قتل أثناء قيادته معركة ضد قوات الأسد في حي المنشية، ورحل عامر في تموز 2016 نتيجة قصف تعرضت له أحياء درعا البلد.
ليست هذه قصص نادرة، بل هناك عشرات القصص الأخرى تشبهها، لجنود وضباط وجدوا أنفسهم فجأة أمام المتظاهرين، فاختاروا الانشقاق على قتل شعبهم، منهم من قُتل أثناء محاولته الانشقاق، ومنهم من وصل سالمًا، حضنت درعا الآلاف منهم، وأسهموا برفقة ثوار المحافظة في معاركهم ضد قوات النظام، ليختار بعضهم لاحقًا العودة نحو أهله وبلدته، بينما اختار آخرون البقاء في درعا.
التقت عنب بلدي الشاب “أبو أحمد النداف”، وهو مقاتل في صفوف “الجيش الحر” في محافظة درعا، ومن أبناء محافظة حلب، قال إنه يحمل في رقبته دينًا لأهل درعا، وهو السبب الرئيسي في وجوده فيها حتى اليوم، موضحًا “لم أستطع الانشقاق عن الجيش في أكثر من مرة، حتى أتى ثلاثة شباب من أهالي مدينة نوى وعرضوا أنفسهم للخطر، وساعدوني على الانشقاق”.
استقبل أهالي نوى “أبو أحمد” في منازلهم وأكرموه بينهم، وهو ما جعله يشعر بمسؤولية سداد هذا الدين، مضيفًا “ليس أفضل من القتال ضد النظام والدفاع عن أهلنا هنا، لأردّ الشكر لمن احتضنني بينهم، لذلك اخترت البقاء في درعا بعد الانشقاق مباشرة”.
تسارع الأحداث في محافظته، واحتدام المعارك بين المعارضة والنظام، دفع “أبو أحمد” للتفكير بالعودة إلى حلب، وقال “المعركة في حلب مصيرية لكل الثورة، والنفير لإنقاذ حلب هو واجب على الجميع وليس على أبناء حلب فقط”، ولكن ساهم عدم وجود طريق من درعا إلى حلب في ثني “أبو أحمد” عن قرار السفر، مضيفًا “سيطرة تنظيم الدولة على معظم الطريق الواصل لحلب، لم يمنعني وحدي من السفر، هناك العشرات غيري وبعضهم من أبناء درعا، يريدون النفير لحلب ولكننا عاجزون عن ذلك”.
هنا يظهر جانب مأساوي للقصة، فابتعاد “أبو أحمد” والعشرات غيره من المقاتلين عن بلداتهم وأهلهم، جعلهم يعيشون حالة قلق وتعب نفسي دائم، يصف أبو أحمد هذا الوضع، ”أنا في درعا، ولكن تفكيري دائمًا عند أهلي في حلب، عندما تبدأ معركة هناك أشعر أنني أقاتل معهم، وإذا قصفهم الطيران، أشعر أنني من يتعرض لهذا القصف”.
في المقابل استطاع آخرون العودة لذويهم، أو تأمين طريق لهم للانتقال إلى درعا، فأصبحت المحافظة اليوم تحتضن المئات من العائلات النازحة من المحافظات الأخرى، والتي ينخرط أبناؤها في صفوف المعارضة المسلحة، كما أسهمت هذه الحالات في ظهور علاقات أسرية جديدة، فقد عمد عشرات المقاتلين للزواج من درعا، وهم اليوم يؤسسون عائلاتهم في محافظتهم الجديدة.
تحتضن محافظة درعا اليوم آلاف العائلات النازحة من المحافظات الأخرى، ويعتبر نازحو محافظتي ريف دمشق وحمص، الأكثر عددًا، إذ تقدّر إحصائيات محلية وجود أكثر من 20 ألف نسمة من النازحين في المناطق “المحررة” في عموم المحافظة، في الوقت الذي بلغ عدد الضحايا منهم ما يزيد عن 350 شخصًا منذ انطلاق الثورة في منتصف آذار 2011، بحسب إحصائيات مكتب “توثيق الشهداء” في درعا.
على الجانب الآخر، لا تخلو المحافظات السورية من وجود المئات من أبناء حوران، الذين تتشابه قصصهم كثيرًا مع أقرانهم في درعا، فتجاوز عدد المقاتلين في صفوف المعارضة من أبناء محافظة درعا وقتلوا في محافظات أخرى نحو 915 شخصًا، العدد الأكبر منهم في محافظتي دمشق وريفها، بحسب إحصائيات ذات المكتب.
تمثل هذه القصص والكثير غيرها، قطعة ضمن فسيفساء الثورة السورية، عن وحدة دماء لا تعترف بالتقسيم، ولا تعترف بالحدود الجديدة.