لكثرة إغداق العديد من المعارضين السوريين تهمة الانفصال على الكرد السوريين، توشك كلمة الكردي ان تصبح صنو مفردة الانفصال، او أحد معانيها. بالتوازي مع ذلك، لا يدّخر هؤلاء وسعاً أو جهداً في توصيف حصول الكرد على أي حق من حقوقهم الطبيعيّة، المنصوص عليها في الميثاق العالمي لحقوق الانسان (ومنها الاعتراف الدستوري بوجودهم القومي والثقافي والسياسي، كجزء أساسي وأصيل من الوجود السوري عموماً)، على أنه الشرّ المطلق، وأنه يفتح للأبواب أمام ولادة «إسرائيل ثانية». وعليه، وفق هذا التراتب المفهومي الذي بات في حكم الراسخ والمعشش في الوعي السياسي والثقافي لدى الكثير من النخب السياسية والثقافية العربية، وبات من سابع المستحيلات زعزعته، يغدو الكردي ليس فقط متهماً بالخيانة والانفصالية حتى تثبت براءته، بل هو مدان بهذه التهمة، مهما حاول تبرئة نفسه منها، عبر تقديم البراهين والأدلّة الدامغة التي تؤكد نقيض الاتهامات السالفة الذكر!
هذا النفس الاستعلائي المشيخي – البطريركي في سرد المواعظ الوطنيّة، الصادر عن بعض المعارضين السوريين، أثناء حديثهم عن الكرد السوريين، كما لو كانوا هم ملائكة الوطنيّة والحسّ والوعي والسلوك الوطني، وبناة الوطنيّة السوريّة، يفرز الأكراد إلى فسطاطين، الوطنيين الطيبين، المسالمين الذين اندمجوا في البيئة العربيّة، ولا يطالبون باستحقاقات هويّتهم القوميّة في سورية المستقبل، والأكراد الأشرار، الخونة، الانفصاليين، الاسرائيليين، الذين يستهدفون الأمن القومي العربي، من المحيط إلى الخليج، ويريدون تقسيم سورية والعراق والسودان والمغرب وجزر القمر…!
هذا النفس المجنون والموتور في شيطنة الكرديّ المطالب بحقوقه، يزايد على النفس الموجود لدى نظام الأسد حين يصنّف الأكراد السوريين فريقين: الأول، وطني مع النظام وضد الثورة. والثاني، خائن وعميل، مع الثورة وضد النظام. والحق ان نظام الأسد وبعض معارضيه يشتركون في خصلة تخوين الكرد واتهامهم باللاوطنية والانفصالية… الخ. بل يحاول بعض المعارضين المزايدة على نظام الأسد في هذه الخصلة المشينة والنتنة، التي دمّرت ماضي سورية وحاضرها، وستدمّر مستقبلها أيضاً.
مع كل هذا الكمّ من التأليب والتخوين والتهم بالانفصال الموجّهة للكرد السوريين، ثمة قول آخر، تذكره معطيات التاريخ القريب، مفاده:
الإخوة العرب هم من سعوا نحو الانفصال عن دولة الخلافة العثمانيّة (السلطنة)، واستعانوا بالأجنبي، الإنكليزي، «الكافر» (مراسلات الشريف حسين ومكماهون) كي يتخلّصوا من ظلم واستعباد الأخ والشقيق التركي المسلم، ولا علاقة للأكراد بذلك!
الإخوة العرب هم الذين ارتضوا بمنطق الدويلة، حين طرح عليهم الاحتلال الفرنسي ذلك. فتشكّلت دويلة حلب (سنّة) ودويلة دمشق (سنّة) ودويلة الساحل (علويون) ودويلة جبل العرب (دروز)…، بينما رفضها الأكراد على رغم طرح الفرنسيين عليهم ذلك.
الإخوة العرب هم من انفصلوا عن دولة الوحدة العربية عام 1961. وحزب البعث في سورية انفصل عن حزب البعث في العراق، ودخل الجناحان في صراع مرير ودموي، ولا علاقة للأكراد بذلك.
فصل حافظ الأسد سورية عن محيطها العربي، وجعلها الحديقة الخلفيّة لمصالح ملالي طهران. حافظ الأسد (القومي، العروبي، الأصيل) الذي كان الكثير من رموز المعارضة السورية يسمونه «الأب القائد»، سمّوه، بعد موته، «القائد الخالد». هؤلاء المعارضون هللوا للاحتلال التركي لجزء من الشمال السوري، بحجة حماية وحدة تراب سورية!
فصل نظام الأسد الابن سورية عن محيطها العربي وجعلها محافظة تركيّة بين 2002 و2010. ثم أخضع الاسد الابن البلاد للاحتلال الإيراني – الروسي، بحجّة حماية وحدة وسلامة التراب السوري، ولا علاقة للأكراد بذلك.
ولدى التاريخ من معطيات الممارسات والسلوكيات الانفصالية لدى الإخوة العرب، ما لا يتسع المقام لسرده. ومع ذلك، يتجاهل البعض هذا، إمّا جهلاً أو عمداً، ويتهمون الاكراد السوريين بما هم فيه متمرّغون!
الكرديّ الطيّب الودود المسالم، هو بالنسبة الى الكثير من الطيف السوري (المعارض) لنظام القرداحة، الساكت عن حقوقه، والذي لا يعكّر صفو المعارضة السوريّة بالإصرار على مطالبه المشروعة وحقوقه الوطنيّة والقوميّة الديموقراطيّة المسلوبة. هو الكردي المهادن إلى درجة الميوعة. الكردي الممتلك صبراً يتجاوز صبر أيوب، وتسامحاً يتجاوز تسامح المسيح و «يبلع الموسى على الحدّين» متلقيّاً اللطمات على الخدين والرأس والصدر والظهر، ولا يصرخ او يستصرخ أحداً! باختصار هو الكردي العبد، التابع الذليل.
نسق كهذا في التعاطي مع الكرد، الذي يظهره العديد مع «معارضي» نظام الأسد، يذكّرنا بالمقولة الاتاتوركيّة التي تقول: «الكرديّ الجيّد، هو الكرديّ الميّت». البعض من هؤلاء الإخوة، يمارسون أفظع انواع المخاتلة والخداع مع الكرد، حين يعلنون تأييدهم لحقوق ومطالب الكرد، ويرفقونها بـ «لكن»…! والكلام الذي يأتي بعد «لكن» ينسف ما قبله. وفي بعض الأحيان، يلجأون إلى بعض العبارات الفضفاضة الملتبسة كي يمننوا الكرد بكرم أخلاقهم وحجم تضحيتهم وتنازلهم عن موقفهم من الكرد السوريين!
والحال أن هنالك أسباباً كثيرة مهمّة ووجيهة متوافرة في نظام الأسد ومعارضته، تلزم الكرد السوريين بألاّ يكونوا انفصاليين ودعاة تقسيم، منها:
1 – نظام سياسي وطني ديموقراطي علماني حاكم، لم يفرض نفسه بقوة السلاح وسفك الدماء، ولم يحوّل البلد إلى حظيرة، ولم يسع إلى «حيونة الانسان» وفق تعبير ممدوح عدوان، ولم ينهب البلد ويهرسه ويفسد الدولة ويهتك عرض البشر والشجر والحجر. نظام لم يجعل البلاد مستباحة للاحتلالات الروسية والإيرانية والأميركية والإسرائيلية والتكفيرية والتركية…
2 – معارضة وطنيّة ديموقراطيّة شفافة ومنفتحة على حقوق مكوّنات الشعب السوري. ولا تمارس الاحتيال وانتحال الصفة. ومشهود لها رفضها القاطع لتجاهل حقوق المكوّنات القوميّة في سورية. وتمتلك خبرة وتركة ضخمة من الممارسة الوطنية والوعي الوطني الحقيقي البعيد من الاستعلاء القومي والديني والطائفي. ومعارضة تسعى نحو بناء دولة مدنيّة علمانيّة، وترفض الوصايات الخارجية عليها. معارضة تتجاوز نظام الأسد في السلوك الوطني الديموقراطي من حيث تراكم الخبرة والممارسة الحقيقيّة. معارضة لا تسعى إلى رهن البلد ومستقبله لأجندات ومصالح دول إقليميّة مثل تركيا.
على ضوء ما سلف، يتضح مدى صحّة الاتهام الذي يوجهه نظام الأسد والكثير من معارضيه، لكرد سورية بأنهم انفصاليون وخونة وإسرائيليون، في حين أن التاريخ قبض على أصحاب الاتهام، متلبّسين بالمجرم الانفصالي المشهود!