سيرين عبد النور – عنب بلدي
تملأ الطفلة ساجدة عبوتين من الماء يوميًا وتنقلهما إلى منزلها. عمل شاقٌ لطفلة لم تتجاوز العاشرة من العمر، إلا أنه ضروري لاستمرار حياتها وأختيها وجدها المقعد، فهي التي تشرف على إدارة أمور المنزل، عقب وفاة والديها.
الخبز والماء وكثير من الاحتياجات الأخرى تؤمّنها ساجدة، كما تقول لعنب بلدي، إلا أن المعاناة الأكبر تكمن في تأمين كميات محدودة من الماء، الذي أصبح نادرًا داخل الأحياء المحاصرة في دير الزور، في ظل معارك مستمرة بين قوات الأسد وتنظيم “الدولة الإسلامية”، ما فرض حصارًا يصفه الأهالي بـ”القاسي” منذ أكثر من عام ونصف.
محطتان أساسيتان توقفت إحداهما عن العمل
يقول محمد، أحد سكان حي القصور، الذي يخضع لسيطرة النظام، إن مشكلة المياه بدأت تتفاقم بعد انقطاع التيار الكهربائي عن الأحياء المحاصرة نهاية آذار من العام الماضي، مشيرًا إلى أن كمية الوقود المستخدمة لتشغيل محطات المياه “قليلة جدًا”، لذا انخفضت الكميات التي تجري تصفيتها وضخها تدريجيًا حتى غابت اليوم بشكل شبه كامل.
وتغذي محطتا الجورة والبغيلية بشكل أساسي الأحياء المحاصرة، ويوضح محمد لعنب بلدي أن “البغيلية” توقفت عن العمل بعد هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” وسيطرته على المنطقة، عقب تضرر قسم منها وتعذر الوصول إليها لإصلاحها.
ويشير الشاب الثلاثيني إلى أن اثنين من العمال قتلا أثناء محاولتهما الوصول لإصلاح المحطة، لافتًا “يرصد التنظيم موقعها وشاطئ نهر الفرات القريب منها، من خلال بعض عناصره القناصين، الذين يستهدفون أي شخص يحاول الاقتراب من المنطقة”.
باتت اليوم محطة الجورة الوحيدة التي تغذي الأحياء المحاصرة، والتي تسحب المياه من نقطة فرعية تقع على ضفة نهر، وصفه الأهالي في دير الزور بأنه “مياه راكدة مليئة بالجراثيم ، ويجري ضخها إلى الأحياء بعد إضافة مادة الكلور، وبعض المواد المنظفة والمعقمة البسيطة عليها”.
لكن ما تنقله المحطة تبقى كمية محدودة من المياه، وفق محمد، إذ تصل فقط إلى أجزاء من حي الجورة والشارع العام، وقسم من الشوارع الفرعية وبعض الحارات في حي القصور، على حد وصفه، ولا تكفي لسد حاجة أكثر من 150 ألف شخص مازالوا يقطنون داخل تلك الأحياء.
ويقتصر عمل محطة الجورة على خمس ساعات متقطعة موزعة على أيام الأسبوع، وقد تصل فترة انقطاعها من ثلاثة إلى خمسة أيام، إلا أن أحياء: الضاحية، والطب، وفيلات البلدية، والوادي، والموظفين، وهرابش، والجبيلة، وبعض المناطق الأخرى، لا تصلها مياه الضخ على الإطلاق، ما يجبر السكان على جلبها داخل عبوات بلاستيكية على العربات أو حملًا على الأكتاف، أو على ظهور الحيوانات.
حلول مؤقتة
مشاهد مؤلمة انتشرت داخل الأحياء المحاصرة منذ العام الماضي، كما يقول أحد ناشطي دير الزور، مردفًا “من كان يظن أن أهل الفرات والكرم سيشربون من مياه الحفر يومًا”.
أوضاع صعبة دفعت الأهالي لاختراع حلول للأزمة، وفق مازن، أحد العاملين في شعبة دير الزور التابعة لمنظمة “الهلال الأحمر”، والذي انتهى قبل أيام من حفر بئر ماء يعمل على الطاقة الشمسية داخل حي الموظفين، على أن يستفيد منه حوالي 6500 نسمة.
وتقتصر مياه البئر على أغراض أخرى غير الشرب، إلا أن فكرة استخدام الطاقة الشمسية لتشغيل محرك الضخ الخاص به بدلًا من الديزل في ظل ندرته، يراها مازن فكرة جديدة على المنطقة.
أمراض تتفشى وتقتل مدنيين
بعض الأهالي عمدوا إلى حفر آبار لاستخراج المياه الجوفية، اثنان منها في حي الجورة، إلا أن مياه هذه الآبار تبقى بحاجة للتنقية كي تصبح صالحة للشرب، إذ يصفها الأهالي بأنها “مالحة ومرة”، في حين يعتمد بعض السكان على مياه النهر، ويستخدمونها في الشرب والطبخ والغسيل.
استخدام مياه النهر أدى إلى ظهور أوبئة وأمراض جلدية وداخلية، طالت الأطفال وكبار السن بالدرجة الأولى، وتوفي إثرها قرابة ستة أشخاص خلال عامٍ مضى، نتيجة الإصابة بأمراض معوية.
لطفية، امرأة في العقد السادس من عمرها، مازالت تعيش داخل حي القصور، تقول لعنب بلدي “هنا يترصد بنا الموت من جميع الجهات فلا طعام ولا ماء ولا سبيل للخروج، والغلاء يضرب كل شيء”.
ويصل سعر برميل الماء إلى خمسة آلاف ليرة سورية، إلا أن لطفية ورغم كبر سنها تجلب حاجتها من الماء في عبوات بلاستيكية، مستخدمة عربة صغيرة، إلا أنها تبدي خشيتها مع مرور الأيام ’”فالجسم أصبح منهكًا ولم يعد يتحمل الجهد”.
يُجمع معظم من يعيش داخل الأحياء المحاصرة أن تأثير الحصار يطال المدنيين بعيدًا عن النظام، فهم على نفس الحال منذ أكثر من عام ونصف، ويرون أنهم يعيشون داخل بقايا مدينة يتشبث من بقي من سكانها ببقايا حياة، آملين الحصول على غد أفضل جل أحلامهم فيه سلام يبعد عنهم الموت، ومياه نظيفة ورغيف خبز، بعيدًا عن خوف يسيطر عليهم منذ سنوات.