محمد رشدي شربجي
في الأول من أيلول 1939 هاجمت ألمانيا النازية بولندا لتكمل احتلالها خلال أيام قليلة. ألمانيا التي كانت قد خسرت جزءًا من أراضيها لصالح بولندا وفرنسا في الحرب العالمية الأولى، لم تكن لتقبل بأقل من رد الصاع صاعين خاصة مع الشروط المذلة التي فرضها الحلفاء على ألمانيا في معاهدة فرساي.
بعدها بيومين أعلنت فرنسا وبريطانيا في الثالث من أيلول الحرب على ألمانيا، ثم انضم لهم في ذلك الاتحاد السوفييتي، الذي وجد في النازية عدوا مشتركًا، لتنطلق أكبر الحروب المعروفة في التاريخ البشري وأكثرها وحشية على الإطلاق.
على أرض بولندا أسست ألمانيا النازية معسكر “آوس شفيتز”، أكبر معسكرات النازية المخصصة لإبادة اليهود والمعاقين وكبار السن والأسرى وغيرهم من “الفائضين عن الحاجة”، بحسب تعبير الفيلسوف نيتشه، الذي نظّر مع آخرين “لتحسين النسل البشري”، هناك كان مئات الآلاف (التقديرات تشير إلى حوالي مليون ونصف ضحية في المعسكر) يساقون إلى أفران أحالتهم رمادًا خلال دقائق.
النهاية معروفة للجميع، خسرت ألمانيا الحرب مرة أخرى، وحوالي سبعة ملايين من مواطنيها، وتقاسم الحلفاء المنتصرون أراضيها فيما بينهم، كما خسرت أجزاء مرة أخرى لصالح بولندا كتعويض عن الأضرار التي لحقت بها جراء الاحتلال النازي، فيما بقي معسكر “آوس شفيتز”، الذي تحول لمتحف، شاهدًا حتى اليوم على هولوكوست النازية.
ليس الهولوكوست حالة عادية لانفلات دوافع وحشية لدى الإنسان كما حدث في أحداث تاريخية مشابهة، الهولوكوست هو حالة نموذجية لنمط من “الحداثة” استمر حتى بعد الحرب العالمية الثانية، نمط نجد فيه “ترانسفير” جماعي للمعتقلين بوسائل نقل حديثة (قطارات) إلى داخل معسكرات خارج المدن لا يراها الناس الذين يجب أن تتلوث حياتهم برؤية مشاهد الإعدام، يشرف عليها رجال يرتدون بدلات نظيفة ولديهم عوائل وأطفال وحياة اجتماعية مميزة و”راقية”، حتى طريقة الإعدام نفسها تعتبر حديثة وتحقق أكبر قدر من الإبادة بأسرع الطرق و”أنظفها”.
وضعت بريطانيا وأمريكا خططهما لنظام ما بعد الحرب في ميثاق أغسطس الأطلنطي في العام 1941، ولم تكن هناك إشارة خاصة للمساواة العنصرية، وشعر “تشرتشل” بأنه ينبغي أن يعاد حق تقرير المصير للشعوب الأوروبية التي غزاها واستعمرها النازي، لكنه لم يرد أن يفسر ذلك على أنه مبرر لمنح حق تقرير المصير للشعوب غير الأوروبية التي غزاها واستعمرها البريطانيون، ولذلك أخبر مجلس العموم البرطاني لتوضيح حيثيات الاتفاق “في اجتماع الأطلسي كان في ذهننا أساسًا، استعادة السيادة، والحكم الذاتي، والحياة القومية لأمم أوروبا التي تخضع الآن لنير الحكم النازي، وهي مشكلة منفصلة تمامًا عن حقوق سكان المستعمرات الذين يدينون بالولاء للتاج البريطاني”.
وبحسب ويل كيمليكا، فإن تشرتشل صدمته بالفعل أيديولوجية التفوق الآري للنازية، لكن ما صدمه أكثر (وصدم غيره) هو الطريقة التي عامل بها النازي الشعوب الأوروبية البيضاء الأخرى، كما لو أنهم ليسوا أفضل من الأفارقة والآسيويين، وقد سبق أن قال هتلر إن “روسيا هي إفريقيا بالنسبة لنا، والروس هم زنوجنا”، وعلى حد تعبير القديس كلير دريك “إبادة البوشمان (شعب بدائي في جنوب إفريقيا) وإبادة الإخوة الأوروبين (من عرق آخر) شيء مختلف أتم الاختلاف”.
حملت ألمانيا إذن مسؤولية الحرب العالمية الثانية لوحدها، ولم يكن مقبولًا غير اتهام النازية والفاشية بالتسبب بكوارث الحرب، واعتبر على نطاق واسع أن المشكلة هي في النازية والخطاب القومي العنصري فقط، وليس في حالة الحداثة التي استمرت في توليد المجازر، على ما يوضحه زيجمونت باومان في كتابه المهم “الحداثة والهولوكوست”.
من أجل ذلك لم يجد الغرب من طريقة للاعتذار من اليهود، إلا برعايته هولوكوست آخر في فلسطين، حيث تعرض الشعب الفلسطيني لأكبر عملية “ترانفسير” معروف بالتاريخ، وتمالأ الغرب على نفسه ليصدق أساطير وخرافات عن أرض بلا شعب وشعب بلا أرض ليحيل إقليمًا كاملًا إلى خراب.
على جسر واقع على نهر نايسه في مدينة غورليتز التي تتقاسمها الحدود الألمانية البولندية، الحدود التي كانت فاتحة حرب راح ضحيتها سبعين مليونًا، وقف داراني يراقب تدفق الناس على الجسر في الاتجاهين، لم تبقَ حدود “هنا”، ولا جيش ولا شرطة بين الجانبين، لا حروب ولا دمار ولا دماء، كله انتقل إلى “هناك”.
“هناك” أطفال محاصرون يبحثون في القمامة عما يسد الرمق، “هناك” أمم متحدة ترعى تهجيرهم من أرضهم، “هناك” ممانعون ومقاومون يحتفلون في حفلة انتشاء جماعي بتطهير عرقي.
جسرًا يبنون “هنا” ولا يبنون “هناك” إلا الجدران، “هناك” حيث الطهر الأعظم، “هناك” حيث الشهداء، “هناك” داريا.