السكبة والعزيمة والعيدية..
عادات مهدّدة بالاندثار في المجتمعات السوريّة
حنين النقري – عنب بلدي
غيّرت الحرب الكثير في حياة السوريين، ومن بين ما طالته يدها عاداتهم وتقاليدهم. ولئن كان التغيير سنّة من سنن الكون، فإنه غالبًا ما يكون بطيئًا وغير ملحوظ الأثر إلا على المدى الطويل، إذ ترث الأجيال عاداتٍ لا تعرف سبب ظهورها، وتفتقد في حياتها تقاليد لا تعلم متى ولمَ اندثرت.
لكن هذا الحال مختلف اليوم، إذ يفتقد السوريون عاداتٍ كانت موجودةً في ماضيهم القريب جدًا، صار الكثير منها نادرًا أو مهددًا بالاندثار مع تغيّر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
العزيمة
ينتشر مصطلح العزيمة (أو العزومة في بعض الأقطار العربية) في مختلف المحافظات السورية، وتعني دعوة أحدهم إلى وجبة طعام تتكلف أنت عناء تحضيرها أو دفع ثمنها.
في المجتمع السوريّ لم تكن العزيمة مرادفًا لبذل المال والكرم فحسب، بل هي فرصة للتلاقي والتجمع في العائلات الكبيرة أيضًا، ومناسبة لإصلاح ذات البين أحيانًا، أو قد تقام “على شرف” مناسبة سعيدة ما.
ولعلّ العزيمة من أكثر العادات “المهدّدة بالاندثار” بين السوريين، إذ يندر من يستطيع تحمّل تكاليفها اليوم، ومن بينهم السيّد رامي، وهو معلّم من دمشق، يشاركنا قصّته قائلًا “في فترة خطبتي تهرّبت كثيرًا من تكاليف عزيمة أهل العروس إلى بيتنا، يكفيني تكاليف الخطبة وتأمين متطلبات الزفاف، لكن بعد العرس كان لزامًا عليّ أن أدعو أهل زوجتي إلى منزلي، ولا بد أن أبيّض وجهها بعزيمة محترمة تقدّم فيها الفواكه والحلويات والغداء لـ 15 سيّدة، تكلفتُ قرابة 70 ألف ليرة سوريّة في نهار واحد، علمًا أن الغداء من إعداد والدتي وليس من المطاعم”.
ويشير رامي إلى أن التكلفة معقولة لو قسناها على سعر صرف الدولار، موضحًا “مبلغ 150 دولارًا كان يساوي قيمةً 7500 ليرة سورية بسعر صرف 50 ليرة للدولار، وقد كان هذا الثمن تكلفة منطقية لعزيمة لهذا العدد، لكن المشكلة أننا نتقاضى رواتبنا بقيمة الليرة المنخفضة، وندفع ثمن المواد بقيمتها بالدولار”.
جعلت هذه التكاليف الباهظة العزائم “بخبر كان” عند السوريين، حسب رامي “بل صارت حتى مجرد الزيارة وتكاليف الضيافة أمرًا مرهقًا، ما يجعل البعض يتفقون في الجَمعات بأن يدفع كل منهم جزءًا لئلا يُثقلوا على صاحب البيت”.
السّكبة
تعني السكبة إرسال جزء من غداء اليوم للجيران، بصحن يسمى “صحن السكبة”، ويعتبر رمضان الموسم الأساسي للسكبة، بغرض مشاركة الطعام مع الجيران الذين وصلتهم رائحته ولابدّ.
ترى السيّدة أم بلال، 46 عامًا من الغوطة الشرقية، أن توقّف تبادل السكبة أمر طبيعي أمام الغلاء والفقر المنتشرين، إذ أُجبرت معظم العائلات على تقليل كمية الطعام، وخفض نوعيّته، لذا سيكون من باب أولى عدم وجود وفرة منه تسمح بالتخلّي عن طبق، أو أطباق، للجيران.
تُقيم السّيدة أم بلال في ريف دمشق بمنزل مُستأجر، بعد أن أجبرها قصف منزلها في الغوطة الشرقية على تركه منذ أربعة أعوام، وتحاول أن تساعد زوجها بالمصاريف بممارسة الخياطة، تقول “كنت فيما سبق مشهورة في البناء بنَفَسي على الطبخ، ولم أكن أحبّ أن يشتهي جيراني رائحة الطعام من بيتنا، وهكذا ورغم أننا لم نكن من الأغنياء إلا أن زوجي كان يُصرّ عليّ لأُرسل لكل عائلة صحنًا صغيرًا عندما أعد طبخات دسمة وقليلة التكرار في العام، مثل الكبة بأنواعها والفطائر وسواها”.
بعد النزوح، وفقد زوجها لعمله، تغيّرت أحوال العائلة بالكامل ومن بينها صحن السكبة، تقول أم بلال “لستُ وحدي من ألغيتُ صحن السكبة، كل من حولي كذلك، ليس هناك من لديه فائض ماليّ يتيح له طبخ كميات أكبر من الطعام، الله يعين العالم”.
وتضيف أم بلال أنها تحاول جهدها ألا تفوح روائح طبخها بشكل يثير شهية الآخرين “مع أننا نسينا دخول الأطباق الفاخرة إلى منزلنا كما الجميع، إلا أننا عندما نقرر أن نطبخ هكذا نوع من الأطباق أحاول جهدي ألا تصل رائحته للآخرين”.
“ضيافة” العيد
تتحسر السيدة فاتن (33 عامًا) بسرد ذكرياتها عن العيد، وتتفنن في وصف مشهد وكأنه حاضر أمامها: “لا يمكن أن أنسى منظر غرفة الضيوف في بيت أهلي، معمول، موالح، حلويات بالسمن العربي، فواكه الموسم، تصطف كلها جنبًا إلى جنب على طاولة منمّقة مع رائحة قهوة مرّة تعبق بالأجواء”، وليس منزل أهل فاتن استثناء، فقد كان هذا هو المشهد الذي يستقبلك به أيّ بيت سوريّ في العيد، ليكون الوداع مع الشوكولا التي تنتظرك عند الباب.
تزوّجت فاتن قبل بداية الثورة بعامين، وهو ما جعلها تنشئ أسرةً في ظروف مختلفة تمامًا عما كانت تتمناه “للأسف لا نستطيع أنا وزوجي اليوم أن نترك نفس الذكريات عند طفلينا، بيتنا المُستأجر صغير ولا غرفة ضيوف فيه، وضيافة العيد صارت باهظة الثمن، وضيوف العيد أصبحوا قلّة قليلة مع نزوح معظم أقاربي، حتى غرفة ضيوف أهلي لم تعد بهذه الحفاوة في العيد”.
اليوم، تكتفي فاتن بصُنع “القراص” في العيد، وهي أقراص دائرية مخبوزة حلوة المذاق تشتهر بها مدينة حمص، وتقول “ولّى زمن صنع المعمول مع غلاء مستلزماته، وإن تمكّنت عائلة ما من صنع المعمول فلن يكون سوى “معمول العجوة”، حتى هذا يُعتبر رفاهية ويكتفي معظم من أعرفهم بصنع “بيتيفور” أو “قراص” منزلي، ويقدمونها مع كأس شاي للزوار في العيد، “هذا ما نقدر عليه، عسى أن نتمكن من رسم البسمة على وجوه أبنائنا ولو بإمكانياتنا البسيطة”.
وارتفعت أسعار الحلويات والشوكولا بشكل كبير في سوريا، إذ يترواح سعر كيلو الشوكولا بين 2500 إلى 5000 ليرة للجودة المتوسطة، أما أسعار الحلويات فيترواح سعر الكيلو بين 2500 و8000 ليرة لبعض الأصناف مثل المبرومة (تجاوز سعر كيلو المبرومة 10 آلاف ليرة في بعض المحلات)، والسبب هو ارتفاع ثمن السمن العربي (الكيلو بـ 3500 ليرة) وارتفاع ثمن الفستق الحلبي (يتجاوز 9 آلاف ليرة سورية للكيلو الواحد).
الأضحية
ليست الحلويات وحدها ما اختلف شكله وعدده في العيد، إذ تشير السيدة أم بلال إلى نُدرة الأضاحي فيه “لم نعد نسمع بأحد يُضحّي في العيد إلا نادرًا، كان باب منزلنا في عيد الأضحى لا يهدأ لكثرة من يقدمون لنا هدايا قطع اللحم من الأقارب والجيران، ونحن نكرر: تقبّل الله، أما اليوم فلا أعرف أحدًا يُضحي رغم أنني أقطن بمنطقة زراعية يُربّي أهلها المواشي”.
تستدرك قائلة “في السنة الماضية ضحّى رجل في الضيعة ببقرته لأنها كانت مريضة وخشي أن تموت”.
وكان مدير العلاقات العامة في جمعيّة حفظ النعمة، مأمون قويدر، صرّح لوكالة الأنباء الرسمية (سانا) أن الجمعية وزّعت من لحوم الأضاحي لستة آلاف عائلة في عام 2015، مقابل عشرة آلاف عائلة في عام 2014، وحدّدت الجمعية سعر الأضحية التقريبي لعام 2016 بـ 85 ألف ليرة سورية، “لخروف يزن نحو 58 كغ على أساس سعر 1450 ليرة للكغ الواحد”.
العيدية
وهي مبلغ من المال يُعطيه الكبار للأطفال في الأعياد، تختلف قيمة العيديّة حسب درجة قرابة مُعطيها ومحبّة الطفل المُعطى، ومتانة العلاقات العائلية بين الطرفين.
تقول السيدة فاتن “كُنا في نهاية العيد نُحصي ما جمعناه من “عيادي”، ونقارنها مع أصدقائنا، ليفتخر صاحب المبلغ الأكبر بما جناه وبمحبّة أقاربه وكرمهم، اليوم لا يكاد أحد يُعطي أبنائي العيدية سوى والدتي ووالدي، في الحقيقة نحن أيضًا لا نوزّع العيدية للأطفال حولنا.
يقول السيّد رامي إن التوقف عن توزيع “العيادي” أمر طبيعي مع كثرة الأطفال وقلّة الدخل، ويضيف “يتسبب الأمر بحروب عائلية حقيقية إن أعطيت طفلًا ونسيت إعطاء آخر، ومع وجود عائلات كبيرة فيها ما يزيد عن 15 طفلًا يُصبح الأمر عبئًا ماديًا حقيقيًا”. يضيف ضاحكًا “مبلغ 100 ليرة كان ثروة حقيقية بالنسبة لنا، أما اليوم فهي لا تُعجب أيّ طفل لأنها ببساطة لا تشتري له شيئًا”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :