داريا – بيلسان عمر
أمسكت قلمي وحاولت أن أجاهد نفسي عن الكتابة عن الشهيد، فلم أستطع، ليس عيًّا، إذ البليغ ليعيا عن تعداد مناقبه، ولكن أظن أن رغبته في إخفاء نفسه وعمله، لا تزال تسيطر على قريحتي، فإذا بي أجدني وأطلب المساعدة والعون من أصدقائه، ليضيفوا مدادًا من حبرهم إلى دواتي، علّ قلمي يثمر كلمًا يضاهي منزلة الشهيد رفعة، وإذا بأحد أصدقائه اليوم لا رفيق من الأحزان يؤويه، قلبه كِسَرٌ من الهموم ودمع العين يرويه، وإذا بصوته يصارع دمعه، فتهز كلماته وتر قلمي ليشدوا معًا:
«أحمد يميزه عن غيره إخلاصه في العمل بعيدًا عن الأضواء، شارك في ثورة كرامتنا، وتم توقيفه مرة لعدة ساعات على أحد حواجز داريا بتهمة عدم حمل هويته الشخصية، ليتصل بأهله ويحضروها له إلى الحاجز، وكان قد اعتقل قبل هذه الحادثة ما لا يقل عن ستة أشهر، ثم ما لبث بعيد خروجه من المعتقل أن ألمّ بداريا مصابها الجلل في مجزرتها المعروفة، ليشارك بكل ما أوتي من قوة وعزيمة وحكمة، فإذا به يساهم في توثيق شهداء المجزرة والمفقودين والمعتقلين ، ثم ليساهم بتقديم يد العون إلى ذويهم، ودعمهم ماديًا ومعنويًا»، وكان صديقه يؤكد لنا طوال حديثه صدق أحمد وطيب أخلاقه وسريته التامة في عمله.
وفي زاوية مقفرة من مقومات الحياة، تركن والدة أحمد، لا تدري أترثي أحمد، أم تضم زوجته وأولاده إلى حضنها لتشتم بهم رائحته، تقول الأم: «تبلى عيوني بالعمى يا أحمد … لم أفرح بعد بسلامتك، ونجاتك مرات ومرات، فقد اعتقل وأبعدوه عني، ثم هددوه بالاعتقال مرة ثانية، وفي أيام مجزرة داريا الأولى رفض أحمد الخروج من البيت، وعندما وصل عناصر الأمن إلى المنزل، وداهموا بيتنا، كاد قلبي يقف لأن أحمد وإخوته في المنزل، وعندما دخلوا كان أحمد يمسك بعدسة كاميرته يقف على إحدى نوافذ البيت، يلتقط لهم صورًا وهم يقتلون جارنا، ويدوسون بأقدامهم على جثته، ثم يربطون جثمانه بشاحنة الشهيد، ويمشون بها وهم يهرجون ويمرحون -وجنّ جنانهم- لما شافوا كاميرا أحمد تلتقط صنيعهم، وبدؤوا بتكسير الأبواب، وأخرجوا أحمد وإخوته، وأوقفوهم على أحد جدران المنزل، وهددوهم بالقتل والإعدام الميداني، ثم قرروا اعتقالهم، وقبيل خروجهم من المنزل، لمحوا صورة والد أحمد مع بشار الأسد، فقرروا إطلاق سراحهم –يعني طلع الصورة إلها فائدة-، يا عيوني عليك يا أحمد لسا ما فرح بأولاده، وما شافهم عم يكبروا أمامه، ولا شافهم بالمدارس، قلبه تعلق بالثورة لدرجة كنا نترجاه أن يلتفت لأولاده وأسرته، ولكن القضية ملأت كيانه، حتى بأزمة داريا الأخيرة، أصر علينا أن نخرج من داريا، ليبقى قلبنا معلّق بها وبه».
أما زوجته فجلست وولديها والدمعة لم تفارقهم، محتارة ماذا تجيب ولديها عند سؤالهم عن أحمد، أين هو؟ لماذا تأخر؟ لماذا لم يعد؟… بابا كل مرة بروح وبيرجع.. ليش هالمرة ما رجع لهلق؟ وما عم يحكي معنا؟.. لم تكتمل فرحتنا عيد الفطر الفائت بقدوم مولودتنا الجديدة، حتى أصبحت داريا والدماء تكسو شوارعها في مجزرتها، وكان قد مضى على خروجه من المعتقل بضعة أسابيع، ثم في أزمة داريا الأخيرة، بقي أحمد في داريا يجاهد مع شبابها الكرام، وعندما أصيب إحدى المرات، خرج من داريا للعلاج، وكان يردد لي، «لن أرثي أصدقائي الذين قضوا نحبهم على جبهة الشرف في داريا، ولن أغنّي لأجلهم أغنيات حزينة، فليس شرطًا أن يكون الحنين بأغنية حزينة، أو صورة باكية، إنما قد يكون بصمت يفتّت الأضلع، وهكذا حنيني إلى داريا، والنصر أو الشهادة فيها»، وما إن تماثل للشفاء حتى عاد أدراجه إلى جبهات داريا، ليصل إلينا خبر استشهاده.
فيارب.. كن عونًا لأهله وزوجته وولديه.. ألهمهم مددًا من عندك.. وأنزل السكينة على قلوبهم.