تقدّم الجزيرة السورية صورة غنية عن التنوع الثقافي والحضاري في سوريا، لتجعل من الرقعة الصغيرة في أقصى الشمال الشرقي، فسيفساء ملونة، تعبر عن نفسها بعدد كبير من المترادفات للكلمة الواحدة، وتتداخل علاقاتها دامجة أصعب الألوان في انحناءات الصورة.
العلاقات الاجتماعية التي فرضت بحكم وحدة الأرض وتداخل الدم والعلاقات الزراعية والتجارية، كان لا بد لها من وسيلة للتنظيم والتوضيح، والذي يتجلى بأهمية التواصل باستخدام لغة يمكن للجميع التحدث بها، وتتيح للأطفال الدراسة في المدارس ذاتها، والتعلم في الجامعات فيما بعد، دون الحاجة إلى الفصل، أو التعبير عن الاختلاف بطريقة تسمح بتعميقه وخلقه بأشكال أخرى.
ورغم أنّ القوميات التي حملت لغاتها في تفاصيل حياة أفرادها حفظت تراثها الخاص وأشعارها وأدبها، إلّا أنّ الأرض التي حظيت بفرصة التعبير عنها بمجازات مختلفة، فرضت بالمقابل مجازًا عامًا جعل جميع اللغات المحكية في الجزيرة مفهومة بالنسبة للمكونات المختلفة، ولو بالحدّ الأدنى.
على مستوى النتاج الأدبي، وهو الشكل الأعلى للغة، أفرزت الجزيرة السورية مجموعة من الأدباء والشعراء الذين استفادوا من حالة الغزارة الثقافية في المنطقة، والتنوع اللغوي الذي أثّر في تكوين مخزونهم من الصور والاستعارات والأفكار.
اللغتان العربية والكردية، بقيتا الأوسع انتشارًا كون الكرد والعرب المكونين الأكبر للجزيرة السورية، أما العربية على اعتبارها لغة التعليم المرتبطة بالهوية السورية، فكانت اللغة المفهومة للجميع والوسيط الأكثر استخدامًا بين أفراد المجتمع، على مستوى التاجر والزبون، والجيران، والأقارب، والإعلام، وحتى الأزواج.
وكون غالبية السكان في منطقة الجزيرة من المسلمين، فكانت اللغة العربية هي الأكثر تأثيرًا في الثقافة العامة، على اعتبارها لغة للقرآن، واللغة الجامعة في المساجد، حيث يقيم المسلمون الصلاة، ويستمعون إلى خطب الجمعة، دون النظر إلى القوميات المختلفة للمصلين.
الكردية أيضًا لعبت دور الوسيط في حالات كثيرة، وخاصة بالنسبة للعرب القاطنين في أحياء ذات غالبية كردية، وإن اقتصرت معرفة اللغة الكردية بالنسبة للعرب على التحدث غالبًا، دون القدرة على الكتابة، إلا أنها استطاعت أن تدعم حالة التداخل الثقافي، وترفد التواصل بخطوات عديدة، رغم الوسائل التي انتهجها النظام للحد من انتشار اللغة الكردية، ومنع استخدامها على نطاق واسع.
وتعبّر واجهات المحال في مدن الحسكة، والقامشلي، والمالكية، وعامودا عن الموضوع بأفضل شكل، إذا يكتب أصحاب المحال أسماءها وشعاراتها بلغتين أو ثلاث، وإن رتبت اللغات حسب أغلبية المنطقة، إلا أنك نادرًا ما ترى لافتة بلغة واحدة.
الوفاء للعلم..
يصدح بقواعد اللغة العربية داخل صفوف القامشلي
يبدأ المدرس خالد صباحه وينهي يومه بتوقيت لم تربكه الحرب، مرتبطًا بروتين حياة يتجدد مع تبدل وجوه الطلاب وتعدد لهجاتهم، ولم تقوَ المعوقات الاقتصادية، والتوتر الأمني في مدينة القامشلي، شمال شرق سوريا، على إفقاده المتعة المتسرّبة من استراحات قصيرة، تمهّد لحصة دراسية جديدة.
في مكتبه الصغير، الذي حوّله إلى معهد لتدريس مادة اللغة العربية، يقلّب المدرّس خالد نجيب، أحد المراجع ليتحقق من معلومة ناقشها مع طالباته في الدرس السابق، ويصرّ على أن ينقل إليهنّ معرفة زائدة عما يرد في المناهج المدرسية، على أمل رفع مستوى المتعة والفائدة خلال الجلسات التالية.
“أتعامل مع الطلاب بأسلوب ممتع وأوصل لهم الأفكار بيسر وليونة”، يؤكّد المدرّس خالد، وهو كردي، لعنب بلدي، مضيفًا “الأمر يبدو مجهدًا وخاصة كون الطلاب الذين أدرّسهم من الكرد، لذلك غالبًا ما أضطر للبدء من الصفر فيما يتعلّق بقواعد اللغة”.
إلّا أنّ الجهد المبذول يعد بمثابة جائزة للطلاب الذين “يعانون اليوم ظروفًا قاسية نتيجة الحرب والفقر وغلاء المعيشة”، ويضيف المدرّس “نحاول أن نزرع الأمل في نفوسهم لإتمام دراستهم ومنحهم الدعم المعنوي لمواجهة كافة الظروف القاسية، وإتمام مشوارهم التعليمي الذي يعني وعدًا بسوريا أفضل.
ونتيجة الحرب التي أعاقت حياة ملايين السوريين، ودفعت بعشرات الآلاف إلى الهجرة، بدا الواقع التعليمي في سوريا واحدًا من القطاعات المهددة، نتيجة تسرب الطلاب من المدارس وتحولهم إلى العمل، بسبب تراجع الإمكانيات المادية، فضلًا عن الظروف المعيشية الأخرى المتعلّقة بانقطاع الكهرباء وارتفاع الأسعار، إلى جانب تراجع عدد المدرّسين وتضرر عدد كبير من المدارس.
ويرى الأستاذ خالد، أنّ الإقبال على التعليم في منطقة الجزيرة السورية، بلغ أوجه قبل نحو عشرة أعوام، إذ كانت المعنويات المرتفعة والرغبة في التطوير، تشكّل لدى جميع مكونات المجتمع دافعًا قويًا للاهتمام بالتعليم، ودعمه على كافة المستويات.
“حب العلم” الذي يحاول الأستاذ تأصيله في نفوس الطلاب، ينطلق من علاقته مع أطفاله داخل المنزل، إذ يسعى لنقل المعرفة التي حظي بها خلال أعوام دراسته للأدب العربي، في جامعة دمشق، مع الارتباط باللغة الكردية، كوسيلة تواصل داخل المنزل، كشكل للمحافظة على الانتماء القومي، ويضيف “اعتدت في منزلي أن أتحدث باللغة الكردية مع أهلي وأطفالي، إلا أننا جميعًا نتعلّم العربية في المدارس، ونهتم بها كونها لغة القرآن الكريم”.
وتضم منطقة القامشلي، التي ينحدر منها الأستاذ خالد ويعيش فيها، نحو 450 قريةً كردية وعربية، وعددًا من القرى السريانية، وأخرى مختلطة، الأمر الذي يشكّل حالة مميزة من التنوّع الثقافي، يمكن التعبير عنها باستخدام لغات مختلفة كجسر للتواصل بين سكان المدينة، أو البلدة، أو القرية الواحدة.
ومن وجهة نظر الصحفي أحمد شويش، فإنّ اللغة “تضطلع بدور الحفاظ على كينونة المجموعة واختلافها من كينونة أخرى تعطيها تمايزًا أو غنىً للمكونات البشرية شعوبًا وقبائل وإثنيات”، مضيفًا، في حديث مع عنب بلدي، أنّ اللغة كوسيلة تواصل وتفاهم وتعايش، لا يمكن أن تكون حكرًا على فرد أو جماعة.
وبينما يصحبنا المدرّس خالد، لتعريفنا بالمكان الذي خصصه لتدريس الطلاب في مكتبه، يؤكد أنّ علاقته باللغة العربية، نابعة عن حبّ التمسه منذ الصغر، ودفعه إلى إتمام دراسته في مجال الأدب العربي، إلا أنه لا يعارض استخدام المناهج الكردية في التدريس على اعتبار أنه “حق من حقوق أي شعب أن يدرس بلغته الأم”.
الأكاديمي، فريد سعدون، وهو عميد كلية الآداب في الحسكة، التابعة لجامعة الفرات، يرى أنّ النظام السوري مسؤول عن قمع اللغة الكردية، ورغم أنّ الكرد استمرّوا في استخدام لغتهم على نطاق واسع في المنازل وفي الشوارع، إلا أنّ النظام كان يصرّ على تهميشها لفترة طويلة.
ويضيف سعدون أنّ اللغة في الجزيرة السورة لم تكن يومًا سببًا في زعزعة التعايش بين المكونات القومية، إلا أنّ النظام عمد إلى خلق “الفتنة اللغوية” من خلال تعمد تهميش لغة معينة لخلق ردّ فعل لدى أصحابها.
وكانت الإدارة الذاتية في منطقة الجزيرة قررت مؤخرًا إدخال المناهج الكردية للصفوف الابتدائية الثلاثة الأولى، إلى جانب المناهج العربية الأساسية، كما عملت إدارة جامعة “روج آفا”، المقرر إطلاقها العام المقبل في مدينة القامشلي، على إنشاء قسم “الأدب الكردي” الأول من نوعه في سوريا.
إلا أنّ “السرعة في إدخال اللغة الكردية في التعليم، وتحويل جميع المواد من اللغة العربية، يمكن أن يترك أثرًا سلبيًا، لعدم وجود كوادر متخصصة تقوم على الأمر” يعلّق الأستاذ خالد، وهو في طريقه لبدء درسه مع مجموعة من الطالبات.
ويضيف أن أثر قلة المتخصصين ينسحب على عملية التعليم بشكل عام في منطقة الجزيرة السورية، إذ تركت الهجرات الكبيرة المرتبطة بحالة الحرب في سوريا فراغًا في قطاع التعليم، لافتًا إلى أنّ الغزارة العلمية التي يحملها أصحاب الكفاءات كان من الأجدر أن يستفيد منها الطلاب السوريون، الأمر الذي يمكن أن ينعكس بشكل سلبي على مستوى الطلاب ويشكل تهديدًا لمستقبلهم.
“الصفة والنعت”، الدرس الذي بدأه الأستاذ بعد لقائنا، وإن كان يركّز على تعليم طالباته اللاتي يتابعن حركات يديه بشغف، إلا أنه يحرّك في نفسه مشاعر غنية، تمنحه الثقة بقدرته على “الوصف والنعت” بأثر من لغة ومعنى، ليرفد حصصه بخلفية ثقافية متنوعة ولد في أحضانها واستمع إلى شخوصها، وحمل على عاتقه مسؤولية تعليم أجيالها.
سليم بركات..
من تضاريس الجزيرة إلى لغة التفاصيل
بنتاج أدبي غزير يتنوع بين الشعر والسيرة والرواية، أثرى سليم بركات مخزون سوريا الأدبي، مضيفًا قيمة للأدب العربي المعاصر. بركات المولود في قرية موسيسانا الكردية، التابعة لمدينة عامودا، بريف الحسكة، عام 1951، أبحر في حرّيته منذ الطفولة، وفي تفاصيل الأزمنة والأمكنة والعلاقات الإنسانية، ليرسم خلال أعوام حياته، وبتنقلاته بين دمشق وبيروت وقبرص والسويد، مسارًا تلقائيًا، دفعه للتمسك باللغة/الهوية.
رائحة المكان في النفَس الأدبي
البدايات الشعرية التي رسمها المكان في سيرة بركات، اتخذت من قريته الكردية، الواقعة على مقربة من الحدود التركية، في أقصى الشمال الشرقي لسوريا، محرّكًا لها، حيث شهد بداية الفرح الرسمي “العنيف”، كما يصف في مذكراته، مشيرًا إلى القيود الرسمية المفروضة من الدولة على شكل اللباس الرسمي في المدرسة، بالإضافة إلى قوانين أخرى مقيدة، كما أثرت طبيعة الحياة في بيئة متشددة ومع والد متدين، إلى جانب العوامل الطبيعية القاسية في المنطقة، في تشكيل “طعنة من الطين” تركت أثرها في لغة الشاعر.
تفاصيل الأماكن، يعتبرها بركات منبع الأفكار والمعاني والجهات، على اعتبارها البوصلة إلى التفاصيل، الأمر الذي يعيده مرارًا إلى الشمال السوري، حيث نبت جذره، في قرية تقع أقصى شمال الجزيرة السورية، ويدفعه ليكتب “الشمال امتحان/ جهة الضجر الكبيرة سيدة الجهات في امتحانها/ تأخذ كل شيء لتعطيك البسالة والتهور/ وفي أضعف حال تجعلك وكيلًا على ملك لا يُرى، أو حارسًا للهواء/ مصادفات متواصلة في شمال لم يكن وجوده إلَّا مصادفة /إذ لم تكن للأرض من قبل إلاَّ ثلاث جهات”.
الشمال ذاته، ملهم بركات، وعدوّه، ذهب به إلى العاصمة السويدية، استوكهولم، مخلّفًا فيه حنين الرحلة الغامض، الذي يمرّ على مكتبة خلّفها في بيروت، وأوراق زرعها في قبرص، أربكه بقوانين الغرب الذي يرى فيه بركات عن بساطة شمال يعرفه بشكل أفضل.
ولم يبتعد بركات عن “قامشلوكي” ويستطيع حسبما قال في إحدى مقابلاته يصفها سنتيمترًا بعد آخر، إذ “ليس هنالك من قامشلوكي أخرى”.
فلسطين في حياة سليم بركات
مرور بركات على بيروت في سبعينيات القرن الماضي، وضعه بحس الشاعر في خضمّ الصراع الدائر هناك آنذاك، منحازًا للثورة الفلسطينية، ومنخرطًا في عملها، وكاتبًا في مجلة الكرمل، التي كان يرأس تحريرها صديقه الشاعر الفلسطيني الراحل، محمود درويش.
الصداقة التي أخذت بعدًا يقترب من الفهم المتبادل بين درويش وبركات، كان مقابلها نتاج أدبي استخدم اللغة المميزة للتعبير عن الآخر، وإن أدرك محمود درويش مفهوم الهوية عند صديقه، كتب عنه “وينفُضُ عن هُويَّتِهِ/ الظلالَ: هُوِيَّتي لُغتي. أنا.. وأنا/ أنا لغتي. أنا المنفيّ في لغتي/ وقلبي جمرةُ الكُرْديِّ فوق جبالِهِ الزرقاء”.
وبوفاة درويش ترك الموت أثره في نفس بركات، وكتب له “تنفّس الموتُ في وجهيَ، هذه المرّة؛ تنفّس عميقًا في المكان، الذي رسمتَ خريطتَه على صفحاتٍ من كتابك الأخير أثر الفراشة، يا محمود”.
العربية وسعة صدر اللغة
وفي إحدى مقابلاته، يشير بركات إلى أنّ علاقته مع اللغة تتوقف مع ما يتيح له التعبير عن ذاته، معتبرًا أنّ اللغة العربية “ليست وافدة” على ثقافته ككردي، كونها لغة الدين والفقه والشريعة، “كانت اللغة العربيَّة من الشساعة ومن السعة ومن الثراء إلى درجة أستطيع أن أعبر بها عن كرديتي، إلى الحد الضروري للتعبير عن نفسي”.
واللغة التي تأخذ بركات إلى هويته، ومساحاته الداخلية، هي الوطن الذي يسكنه، والذي لا يستطع أن يرى حدودًا أكثر منها، ولا علاقات أكبر منها، ولا حرية أكبر منها، مالئًا “جمهوريته بقواعد الإعراب العربيّة”.
سوريا القصيدة
عقب الثورة السورية، كتب سليم بركات قصيدته الشهيرة بعنوان “سوريا” جمع فيها مآسي الموت والعدم، وأشار إلى عبثية الحاضر في سوريا التي يقول فيها “أيها البلدُ الأكياسُ يجمعُ المخذولُ فيها ثيابَه، وعنادَه، وحناجرَ أولادهِ المُنتَزَعَةَ. مزادُ الشرعِ عليكَ. مزادُ اليقينِ فيكَ”.
ويخبو الأمل في “سوريا” إلى الدرجة التي يعجز فيها الشعر عن ضبط نفسه بما يتوافق مع التاريخ الخاص بسليم بركات ” لا تسألوني الضَّبْطَ مُتقَنًا كالرَّبْط مُتقَنًا بعد الآن. الأعالي مُخبَّلةٌ مزَّقتْ صُدْرَتها، والأسافلُ مُخَبَّلة كالأنحاءِ الخَبَلِ لا تُرتَجى بعد الآن. ركبتاي خارتا والسماءُ خارت”.
استطلاع: العرب واللغة الكردية في الجزيرة السورية.. اهتمام معرفي أم تعلم تلقائي؟
نظرًا لكون اللغة العربية هي لغة التعليم والتواصل بين سكان الجزيرة السورية، بدت الصورة الأعم أنّ أبناء المكونات الأخرى من كرد وسريان وآشوريين، هم فقط من يجيدون اللغة العربية، دون أن يتعلم العرب غير لغتهم.
إلّا أنّ الواقع في أزقة الحارات في محافظة الحسكة، مغاير تمامًا للصورة السائدة، بحيث لا يمكن أن تتعرف إلى قومية الفرد من خلال حديثه ولغته التي يتكلم بها، فكثير من العرب يجيدون الكردية، بالطلاقة التي يتحدث بها الكرد اللغة العربية.
ومنع النظام السوري الكرد من استخدام لغتهم في التعليم، ولم يولها أيّ اهتمام ضمن المناهج الدراسية، إلا أنّ الكرد استمرّوا في التمسك بلغتهم، وعلّموها حتى لجيرانهم من المكوّنات الأخرى.
مراسل عنب بلدي، تجول في محافظة الحسكة واستطلع آراء العرب فيها حول اللغة الكردية، وما إذا كانوا يجيدون التحدث بها. الرد جاء من البعض بالكردية، بينما أشار آخرون إلى مبررات عدم قدرتهم على التحدث بها.
عزيزة الخنافر، وهي الرئيسة المشتركة لمكتب شؤون الأديان في محافظة الحسكة، أكّدت لعنب بلدي أنها تعلمت اللغة الكردية من أجدادها الذين عاشوا لفترة طويلة بين الكرد، واستخدموها في منازلهم، حيث تعلمها الأولاد منذ الصغر.
وتشرح الخنافر، مستخدمة اللغة الكردية، “هكذا أتحدث مع أصدقائي الكرد، ومع الجيران في القربة، لم أضطر للدورات التعليمية من أجل إتقان اللغة الكردية، بل كان الأمر تلقائيًا”.
التاجر العربي، جورج طوراني، اضطر بحكم عمله لتعلم اللغة الكردية من أجل تسهيل التواصل مع الزبائن، والتعامل معهم، ومنحهم شكلًا من الأريحية في الإقبال على الشراء من محله.
أما عبد الرؤوف خللي، وهو مواطن في مدينة القامشلي، برر عدم معرفته باللغة الكردية، لكون حيّه يضم أغلبية عربية، وأضاف “لم نعتد في المدرسة أن نتحدث بالكردية نظرًا لكون المناهج عربية، حتى إننا لم نسمع أحدًا يتحدث الكردية، وعملي في السوق أيضًا يجعلني أحتك مع العرب أكثر”.
وبينما توفر العلاقات التجارية والجيرة والرغبة في مزيد من التواصل، خيار تعلّم اللغة الأخرى، أو عدمه، إلّا أنّ علاقة الزواج بين المكونات تفرض على الأطفال تعلّم لغتي الأم والأب بشكل تلقائي، يبدأ بسماع حديث الأهل في سن مبكرة، وينتهي باستخدام اللغتين لإدارة الأحاديث في المنزل.
“أنا من المكون العربي، أبي عربي وأمي كردية”، يقول محمد مراد القاطن في مدينة القامشلي، ويضيف “حارتنا فيها الكرد والعرب ونعيش مع بعضنا من دون خلافات، وأغلب أصدقائي من الكرد”.
مزيج لغوي فريد في الجزيرة السورية
يعيش في الجزيرة السورية، والتي يمكن أن تتخذ شكلها بالتقسيم الإداري لمحافظة الحسكة، نحو مليون ونصف المليون نسمة، حسب آخر الإحصائيات الرسمية، ومع الإشارة إلى تراجع العدد منذ عام 2011 نتيجة النزاع في سوريا، وحركة الهجرة الكبيرة، إلا أنّ المكونات الأساسية للمجتمع السوري في الجزيرة، والتي تتميز بتنوعها وتعددها واختلاف لغاتها، حافظت على وجودها، واستمرّت في التعبير عن ذاتها من خلال ممارسة طقوسها وعاداتها وتقاليدها، ومايزال المار في شوارع محافظة الحسكة، يستطيع أن يميز لغات عدّة، أبرزها:
العربية:
هي أكثر اللغات تحدثًا ضمن مجموعة اللغات السامية، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا حول العالم، تنتمي إلى مجموعة اللغات الآسيوية– إفريقية، ويتحدث العربية أكثر من 450 مليون شخص حول العالم، ويتركزون في الدول العربية، وبعض الدول الإسلامية.
العربية لغة رسمية في كل دول الوطن العربي، وهي إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة، ويُحتفل باليوم العالمي للغة العربية في 18 كانون الأول، كذكرى اعتماد العربية بين لغات العمل في الأمم المتحدة.
ويتحدث أغلب سكان الجزيرة السورية اللغة العربية على اختلاف مكوناتهم القومية، كونها اللغة الرسمية في سوريا، ولغة التعليم، ونظرًا لوجود سكان عرب في المنطقة.
الكردية:
تنتمي اللغة الكردية إلى اللغات الهندو- أوروبية، تكتب بالخطين اللاتيني والعربي، بحسب الدولة التي يقطن فيها المتحدثون، ویتحدث الكردية نحو 25 مليون شخص، وتضم عددًا من اللهجات، وتنتشر في كل من تركيا، والعراق، وإيران، وسوريا وأرمينيا.
وتقسم الكردية إلى مجموعة من اللهجات، ثلاث منها تدعى الكرمانجية (يستخدمها كرد سوريا وتركيا)، وإحداها تدعى اللهجة الصورانية (يستخدمها كرد العراق وإيران).
ويتحدّث كرد سوريا غالبًا اللهجة الكرمانجية الشمالية، وهي أكثر اللهجات استخدامًا.
وتصل نسبة الكرد في سوريا إلى نحو 10%، إلا أنّ اللغة الكردية لا يسمح بتعليمها في المدارس، وبعد سيطرة الإدارة الذاتية بدأ الحديث عن إعادة تعليم الكردية في المدارس، وخلال العام الدراسي الماضي، أدخلت الإدارة الذاتية المنهاج الكردي إلى جانب المنهاج العربي في المراحل الابتدائية الثلاث الأولى في مدارس محافظة الحسكة.
كما انتشرت مؤخرًا في المحافظة معاهد تعليم اللغة الكردية بشكل واسع، وقررت إدارة جامعة “روج آفا”، المقرر إطلاقها في مدينة القامشلي، إنشاء كلية للأدب الكردي.
السريانية:
هي إحدى اللغات السامية، مشتقة من اللغة الآرامية ويعتبرها بعض الباحثون تطورًا طبيعيًا لها، بينما يذهب آخرون لتوحيد اللغتين.
نشأت اللغة الآرامية، وهي أصل اللغة السريانية، في الألف الأول قبل الميلاد لتكون العائلة الثالثة ضمن عائلة اللغات السامية.
تعتبر السريانية اللغة الأم لطوائف الآشوريين، السريان، والكلدان المنتشرة بالعراق وسوريا خاصة، وتحمل أهمية كبيرة لدى المسيحيين عمومًا، كون النبي عيسى المسيح كان يتحدث بالآرامية، وهي اللغة الأم للسريانية.
وكلمة “سرياني” تعني “السوري”، ويجمع العلماء أنّ الإغريق أطلقوها على الآشوريين، إذ أسقطوا الألف في كلمة “أشور” لتصبح “آسوريا”، واستعمل هيرودتوس لفظة سوريا أو “سيريا” في كتاباته للإشارة إلى الأجزاء الغربية من الإمبراطورية الآشورية.
وماتزال السريانية تستخدم اليوم، في منطقة الجزيرة السورية، وتدرّس على نطاق واسع في كافة الكنائس والمدراس الخاصة التابعة لها.
الأرمنية:
لغة هندو- أوروبية مستعملة في أرمينيا وفي المناطق المجاورة لها وفي بلاد المهجر حيث استقرت جاليات من الشعب الأرمني.
وانتشرت الأرمنية، منذ القرن السادس قبل الميلاد في مناطق آرارات الجبلية قرب بحيرة فان ومنابع نهري دجلة والفرات، وكانت تكتب بالأحرف اليونانية والسريانية.
ويشكل الأرمن نسبة بسيطة من سكان الجزيرة السورية بالمقارنة مع باقي المكونات، إلا أنّ اللغة الأرمنية هي لغة التخاطب بينهم، بالإضافة إلى إجادتهم العربية، والكردية في بعض الأحيان.
لغات الجزيرة بوابة السلم الأهلي
مجيد محمد – صحفي سوري
كغيره من المجتمعات متعددة الثقافات والإثنيات، يحظى مجتمع الجزيرة السورية بتنوع ثقافي وإثني، وديني أيضًا. لكن رغم هذا التنوع الذي يعتبر مصدر إثراء للحياة الاجتماعية في مجتمعات أخرى، ويلعب دورًا أساسيًا في تقليص حجم الصراعات البينية بين الكتل الاجتماعية على تنوعها، بناء على قاعدة إغناء الهوية الكلية للمجتمع بمجمل مكوناته وفق أسس المواطنة والديمقراطية وحماية الإقليات وحقوق الإنسان، إلا أن تنوع مجتمع الجزيرة ظلّ خاملًا ومنهكًا جراء السياسات التي اتبعها نظام البعث خلال أربعة عقود من حكم آل الأسد.
ليست اللغات المحلية في منطقة الجزيرة استثناءً عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرهقة، نتيجة الإرث الثقيل من الإجراءات الاستثنائية التي فُرضت على أبناء هذا السهل من الكرد بدرجة خاصة، فالنظام حرم الكرد من تعلّم لغتهم الأم رسميًا، كما لاحق المتنورين من الناشطين واللغويين الذين حاولوا افتتاح مراكز سرية لتعليم اللغة الكردية، وطالت الاعتقالات العديد منهم، كما طرد كثيرون من وظائفهم نتيجة هذه النشاطات، ورغم ذلك كان ثمّة حيّز جزئي ومحدود لباقي المكونات كالسريان والآشوريين والأرمن لتعلّم لغاتهم المحلية ضمن نطاقات ضيقة وغير رسمية وبرعاية لاهوتية، متمثلة بالكنائس والمدارس الملحقة بها، وكجزء من استراتيجية عامة انتهجها النظام في الجزيرة خاصة وفي سوريا عامة.
وكنتيجة للطمس الممنهج الذي مارسه النظام طوال عقود من الزمن بحق الثقافات المحلية في منطقة الجزيرة، انحسرت الهويات الثقافية المميزة للمكونات عامة إلى مجالات ضيقة ومحدودة ومن بينها اللغة، وخاصة بالنسبة للسريان والآشوريين والأرمن، بسبب حجمهم السكاني القليل نسبيًا مقارنة بالمكونين الرئيسيين أي العرب والكرد، وهذا كان من جملة الأسباب التي أدت إلى حالة من الاغتراب الاجتماعي العام بين مكونات الجزيرة.
لكن الطابع السياسي الذي ميّز القضية الكردية لعب دورًا مهمًا في إعادة إنتاج نمط ثقافي بديل في ظل فضاء القمع الواسع الذي واجهه الكرد خاصة، فحافظوا على لغتهم وعاداتهم الثقافية المميّزة وتمكنوا من بناء علاقات اجتماعية، قد نصفها في حدها الأدنى، بعلاقات آمنة مع باقي المكونات تفي بغرض الحفاظ على السلم الأهلي في حالات الفوضى كما حدث إبان انتفاضة 2004، وكما يحدث الآن في منطقة الجزيرة في ظل حكم نظام “الإدارة الذاتية”.
فصل الكرد كمجتمع، طوال تاريخهم السياسي والاجتماعي في منطقة الجزيرة بين الدولة كنظام سياسي في سوريا من جهة، وبين المجتمعات المحلية من جهة أخرى، وهذا وفّر خيارات عديدة لبناء علاقات اجتماعية واقتصادية تطورت بفعل الزمن إلى حالة من الانسجام الآمن في جو من المتناقضات السياسية والاقتصادية والثقافية، ولعبت اللغة العربية باعتبارها اللغة الوحيدة الرسمية دورًا مهمًا في بناء هذا الانسجام بين جميع المكونات على الرغم من الظلم الثقافي الذي طال اللغة الكردية، إلا أنه لم يقف عائقًا أمام مجتمع الجزيرة للوصول إلى بر الأمان حتى آذار من العام 2011، حين تضاءلت قبضة السلطة المركزية.
ومع انحسار قبضة النظام الأمنية في محافظة الحسكة منذ العام 2012، وتأسيس “الإدارة الذاتية” من تحالف سياسي يضم ممثلين عن معظم مكونات الجزيرة (رغم الملاحظات العديدة على أداء الإدارة السياسي)، بدأت اللغات المحلية بالانتعاش وظهرت العديد من المراكز المعنية بتعليم اللغات المحلية، إلى جانب فرض مناهج من جانب “الإدارة الذاتية” لتعليم هذه اللغات والحفاظ عليها وتأصيلها كجزء من الثقافة العامة والمميزة للمنطقة، وإعادة إحياء الثقافات المحلية كإحدى العوامل الضرورية الممهدة لبناء مجتمع منسجم قادر على تخطي تبعات الحرب التي تعصف بالبلاد، والوصول إلى حل مستدام للمظلومية التي طالت هذه الثقافات.
أعد هذا الملف من قبل جريدة عنب بلدي بالتعاون مع إذاعة راديو آرتا إف إم
تابعوا، حلقة خاصة عن الملف في إذاعة راديو ARTA FM