في تحليله لعملية بناء الدولة في أوروبا الغربية يقارن عالم الاجتماع الأميركي تشارلز تيلي الدولة بعصابات الجريمة المنظمة انطلاقاً من فكرة الحماية (الخوة)، مقارنة اعتبرها أفضل لفهم الدولة من النظرية القائمة على العقد الاجتماعي. فمثل عصابات الجريمة المنظمة فرضت الدولة الحماية على رعاياها، حماية مزدوجة ضد الأعداء الخارجيين والداخليين، وطبعاً وأولاً حماية من غضب الدولة نفسها.
نجاعة هذه الحماية تشترط احتكار وسائل العنف، كما تفعل العصابات التي تسعى لاحتكار العنف في مناطقها الخاصة. فقد وجِد العديد من الفرقاء الذين امتلكوا العنف والحق باستخدامه ونازعوا الدولة ادعائها حصرية هذا الحق، فكان على الدولة أن تخوض حرباً طويلة ضدهم لنزع سلاحهم وحقهم بهذا السلاح. التمييز بين الاحتكار الشرعي وغير الشرعي ليس إلا نتاجاً متأخراً لعملية الاحتكار، ويعبر عن نجاح الدولة أو عدم نجاحها في تحقيقه. شرعية احتكار العنف نتاج النجاح في إنجاز الاحتكار وليست سابقة عليه.
مشروعية ادعاء الدولة بدورها كحامٍ قامت على النجاح في تحقيق هذا الاحتكار وفي خوض الحرب ضد الخارج، والسعي لتحقيق هذه الوظائف هو المدخل لفهم التوسع والتحول الذي طرأ على الجهاز الحكومي للدولة وعلى آلية عمله. فقد تطلب هذا مدداً منتظماً من الرجال للحرب، وتدريبهم وضبطهم، وتأمين دخول منتظمة ومستقرة لخزينة الدولة، الأمر الذي استدعى الاهتمام برأس المال وتثميره وتوسيعه. وكي تكون هذه الحماية مقبولة أيضاً من طرف المستفيدين منها، توجب على الدولة أن تؤمن لهم بالمقابل مزايا في مواجهة الآخرين (الأغراب) ممن ليسوا من رعاياها، مثلاً عبر فرض ضرائب جمركية على التجار الأجانب في مقابل التجار المحليين بحيث تكون أعلى مما يدفعه الأخيرون للدولة بشكل ضرائب لقاء حمايتهم.
عملية بناء الدولة يمكن تمثيلها من خلال أربع وظائف مترافقة (تعكس مدى شبهها أيضاً بمنطق عصابات الجريمة المنظمة): 1- صناعة الحرب: إبادة أو تحييد المنافسين خارج الحدود. 2- صناعة الدولة: إبادة أو تحييد المنافسين داخل الحدود باحتكار العنف. 3- الحماية: إبادة أو تحييد منافسي وكلاء الدولة الذين يتمتعون بحمايتها. 4- استخلاص الموارد والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الوظائف الثلاث السابقة.
تمت عملية بناء الدولة في أوروبا الغربية بشكل تطوري، فخضعت لمبدأ البقاء للأقوى، بحيث استمرت الدول الأكفأ فيما زالت تلك التي لم تنجح في القيام بوظائفها. كان بقاء الدولة واستمرارها رهناً بتنمية وتطوير مجتمعاتها واقتصاداتها، الأمر الذي جعل تطورها مرتبطاً بالتطور الداخلي لهذه المجتمعات وغير منفصل عنه. رافق هذا التطور ازدياد قدرة المواطنين -عبر الثورات كما عبر الضرائب- على التدخل في إدارة الدولة وفرض قواعد ضابطة على سلوكها. كانت النتيجة الدولة الحديثة وما يترافق معها من فصل السلطات والديموقراطية وحكم القانون.
السؤال المثير هو ما الذي حصل مع نقل هذه الدولة، التي يتماثل منطقها الداخلي في النهاية مع عصابات الجريمة المنظمة، إلى خارج حدود نشأتها في أوروبا الغربية؟
لم تكن نتائج بناء الدولة في العالم الثالث شبيهة بنتائجها في أوروبا، وقد أشار العديد من الدارسين للدولة العربية إلى تضخمها في مقابل الضعف الهائل في الكفاءة والشرعية، اللذين يسمانها. الدولة العربية كما يصفها نزيه الأيوبي دولة ضارية ولكنها في الوقت ذاته تفتقر إلى القوة التي تسمح لها بالنفاذ إلى المجتمع، قوة الإقناع والشرعية.
نشأت الدولة العربية الحديثة إن على أساس من إدارة استعمارية هدفها إخضاع السكان المحليين أو على أساس تحديث عسكري فشل تحديداً في ما يتعلق بمواجهة العدو الخارجي أو على هجانة من الاثنين، فلم تكن نمواً طبيعياً لمجتمعها، بل كانت على قطيعة مع إرثه الروحي والثقافي الناظم للحياة داخله. كذلك أصبح استمرارها ووحدتها شأناً يقره ويحميه النظام العالمي، وليس رهناً بكفاءتها أو قدرتها على تعبئة مواردها بأفضل شكل من أجل القيام بوظائفها تحت خطر الزوال والاندثار. يقدم العراق بعد 2003 مثالاً معبراً، فهو لا يلبي أي شرط من شروط الدولة، فلا احتكار للسلاح ولا سلطة شرعية ولا سيادة تمارسها الدولة على كامل إقليمها. العراق دولة بالاعتبار الحقوقي فقط، وما يحفظ استمراره بهذه الصفة ووحدة أراضيه هو النظام الدولي، وبمعزل عن أية دينامية داخلية. بل حتى عندما استولى تنظيم «الدولة الإسلامية» على ما يقارب 40 في المئة من أراضي العراق تدخل العالم بأجمعه لكي يحارب التنظيم ويحفظ العراق كدولة. ما يصدق على العراق يصدق كذلك على الصومال ولبنان وسورية.
خولت هذه النشأة الدولة الاستقلال التام عن مجتمعها وإنتاجه وتطوره. فالسلاح لا يُنتج في البلاد وغير مرتبط بتطور القوة الإنتاجية والتقنية للمجتمع. يُضاف لذلك أن الدولة العربية دولة ريعية أو شبه ريعية، مستقلة في تمويلها عن القدرات الإنتاجية لمجتمعاتها، حيث يتم تمويل جيوشها وتدريبها وتسليحها عبر الريع أو الاتفاقات والتحالفات الدولية بمعزل عن القدرة الاقتصادية لمجتمعها، فلا تلعب الضرائب المُستحصلة من مواطنيها دوراً يذكر في تمويلها. لننظر قليلاً في الأسلحة العالية التقنية التي تحوزها بعض الدول العربية بفضل ريوعها أو تسليح مصر القائم على منح عربية ومساعدة أميركية، أو تسليح سورية بفضل المساعدة السوفياتية سابقاً والإيرانية لاحقاً. تسلح الدول العربية لا يعكس قدرات المجتمع الاقتصادية أو العلمية، كل هذا جعل الدولة لا تولي اهتماماً أساسياً بتطوير قدرات مجتمعها باعتبارها المحك الأساسي لاستمرارها.
كانت الغلبة داخل الجهاز الحكومي المتضخم للدولة من نصيب الجهاز العسكري (الجيش والأمن)، مما سبب انعدام التوازن داخل الدولة نفسها، بين جهازها العسكري وجهازها البيروقراطي، وبين الدولة والمجتمع من جهة أخرى. أصبح الاستيلاء على الجهاز العسكري المدخل الأبسط والأكيد للسيطرة على السلطة في الدولة، وتحول الجهاز العسكري (ضباط الجيش والأمن) إلى ما يشبه طبقة مستقلة بذاتها، حريصة على امتيازاتها ومصالحها، وفي كثير من الحالات قامت عصبيات طائفية أو قبلية أو عائلية بالسيطرة على الجيش ولاحقاً الدولة، واستخدمت قوتها القهرية في صراعاتها ضد الجماعات الأخرى في مجتمعها كما في سورية والعراق ولبنان. وما أن تسيطر أية جماعة على الدولة فإنها لا تنوى أن تتخلى عنها كمصدر للريع، كما أنها لا تولي اهتماماً حقيقياً بحماية وكلائها ومصالحهم وتنمية وتوسيع الرأسمال المحلي وإنتاجية مجتمعها طالما أنها لا تلعب أي دور في صيانة بقاء هذه الدولة في صراعها وتنافسها مع أعدائها الداخليين أو الخارجيين. الكفاءة البيروقراطية والاهتمام برأس المال وإنتاجيته ليست أموراً ذات أهمية للدولة طالما أن هذه الأخيرة قادرة على إعادة إنتاج سلطتها ومصالحها ومصالح حلفائها وبمعزل عن هذه الأمور.
في العالم الثالث كما يلاحظ تيلي، وضمناً الحالة العربية، لم تعد المسألة مجرد مقارنة ين الدولة وعصابات الجريمة المنظمة، بل إن الدولة نفسها عصابة.