لا يمكن الجزم بأول حرب أهلية في التاريخ، لكن ما لا شك فيه أن الحروب الأهلية نشأت مع تطور الإنسان إلى مرحلة الملكية والصراع عليها بين البشر والجماعات، فكانت الصراعات بين الجماعة والجماعات الغريبة حروباً خارجية، لبست الطابع الوطني والقومي في العصور الحديثة، والحروب بين مكونات الجماعة الواحدة في بقعة جغرافية محددة، يمكن أن نطلق عليها حروباً أهلية.
فيمكننا ببساطة القول إن حروب «البسوس» و«داحس والغبراء» هي حروب أهلية تنتمي إلى زمنها، كما الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب (1861-1865)، والإسبانية (1936-1939)، واللبنانية (1975-1990)، والجزائرية (1991-2002)، وكثيراً من حروب أوروبا الطاحنة في العصور الوسطى، وحروب نيجيريا وأنغولا وناميبيا والصومال وزائير، بل قل الحروب المشتعلة في كل بلد أفريقي، هي كلها حروب أهلية بالوكالة عن جهات إقليمية أو دولية بدرجات متفاوتة.
بهذا المنطق تندرج الحرب السورية الآن في عداد هذه الحروب، من جهة أن طرفيها سوريان (لا ينفي قولنا هذا وجود ميليشيات ومرتزقة إيرانيين ولبنانيين وأفغان وجزائريين وروس في صفوف قوات النظام أو معها، ووجود شيشان وأوزبك وتركمانستانيين وأفغان وأفراد من مختلف أمم الأرض في صفوف الفصائل الجهادية، كجبهة النصرة التي حولت اسمها وحافظت على مضمونها وتوأمها «داعش»، الذي تكثر التكهنات حول اصطفافه المفترض، هل هي في صف النظام أم في صف المعارضة، أم أنهم خوارج، كما تسميهم الفصائل الجهادية؟ وهذا حديث شائك وطويل وحافل بالأسئلة)، وأن مسرحها الأرض السورية، وأنها إضافة إلى كونها في إحدى جوانبها صراعا داخلياً على السلطة أو على تقاسمها على الأقل، استثمرت حال انتفاضة شعبية بمطالب محقة وتمت مواجهتها بالقتل والتعذيب وكافة الوسائل التي تدفعها للتسلح، بدأت ثورةً وتم جرّها من النظام لتكون حرباً أهلية، فهي حرب إقليمية عالمية تخوضها بالوكالة أطراف محلية مجازاً أو ادّعاءً، أو محلية بحكم الولادة وليس الانتماء.
لذلك فإن أي حديث عن أفق لإنهاء هذه الحرب وبدء مرحلة جديدة في تاريخ سورية يبقى أقرب إلى الرغبات أو الأحلام في المدى المنظور، لسبب أساس وبسيط، وهو أن ممولي الحرب ومؤججيها الدوليين والإقليميين لديهم عشرات مناطق الصراع والاختلاف التي تعبر الساحة السورية مكاناً مناسباًً لتسجيل نقاط فيها وانتزاع تنازلات من الخصم في بؤر أخرى.
لكن هذه البديهية يجب أن تصبح دافعاً للسوريين بمن فيهم المحاربين في الطرفين (السوريين منهم) ليبدأوا خطوات عملية باتجاه البدء بعملية سياسية حقيقية، تبدأ بالاعتراف بالطرف الآخر ووجوده وحقه في التعبير عن نفسه عبر الوسائل السياسية والمؤسسات الديموقراطية التي ستولد بعد الاتفاق أو التوافق، على شاكلة اتفاق الطائف 30 أيلول (سبتمبر) 1989، والذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية بوساطة مشكورة من الشقيقة الكبرى السعودية.
من غير أن تولد مبادرة من أطراف الصراع نفسها أولاً ووساطات عربية غيورة على الدم السوري، لن تنجح أية خطة أو مؤتمر في إرساء أسس لحل وطني، بل ستكون هدنات موقتة، وإعادة توزيع للحصص، وفق موازين القوى المستجدة على حساب دماء السوريين وخراب بلدهم، وهي ما كانت حال «الجنيفات» المتتالية، وهي ما ستكون حال المقبلة، إن لم تكن قائمة على رغبة حقيقية ونية صادقة من أطراف الصراع المسلح لوقف الحرب والبدء بحوار سياسي وطني شامل يؤسس لولادة الجمهورية السورية الثانية. كل هذه التضحيات التي بذلها السوريون تستحق أن تتوج بسورية جديدة بلا استبداد ولا طغيان ولا حكومة «قروسطية» متخلفة، تجرّم المواطنين باسم الله وتحولهم إلى رهائن حرب في مواجهة العالم وفي مواجهة المحيط العربي.