ليس أصدق من النساء، أمهاتٍ وزوجات وفتيات، يروين ما شاهدن وعشن وعانين في الداخل السوري، غداة اندلاع الثورة الشعبية وعشية استحالتها حرباً مأسوية لا نهاية لها. إنهن نساء المدن والقرى، مناضلات وناشطات، كما بتن يُسمين، علمانيات ومتدينات، يشهدن على انطلاق شرارة الثورة ضد النظام الدكتاتوري في مطلع ربيع 2011 وما تلاها من مفاجآت ومآسٍ حتى العام 2013. هؤلاء النسوة اللواتي روين وسردن شهاداتهن، والنسوة الأخريات اللواتي دوّنّ الشهادات وكتبنها، يُسمَّين «الخفيات» في كتاب جولان حاجي «إلى أن قامت الحرب- نساء في الثورة السورية» (دار رياض الريس). جميعهن «خفيات»، يسردن أو يكتبن، بالسر وبعيداً من أعين العسس البعثيين وحتى الأصوليين الذين لا يولون المرأة اعتباراً. هؤلاء «الخفيات» هن فعلاً أهم الشهود على ما جرى طوال الأعوام الثلاثة، ليس فقط لأنهن عشن اللحظات الحاسمة في الصميم، وإنما لأنهن أيضاً حقيقيات وصادقات، لا مآرب شخصية لهن ولا مطامح أو مصالح، هن اللواتي خرجن إلى التظاهرات وأعلن احتجاجهن ضد نظام القمع وناضلن وهتفن وغنين وأطلقن شعاراتهن الجريئة ضد النظام، وضد الأصوليين لاحقاً. وبعضهن تحدين بيئتهن الذكورية وسلطة الأب والزوج، وبعضهن أسرن وعُذبن وراء قضبان البعث.
هؤلاء النسوة المجهولات الأسماء ولكن المعروفات جداً بقسماتهن وأخلاقهن وهوياتهن، عشن لحظات الثورة المتوالية، في ميدان التظاهرات ثم في قلب المواجهات التي راحت تعنف، ثم في المجازر… إنهن يروين تفاصيل ما شاهدن واختبرن قبل أن ينكفئن إلى منازلهن بعدما أصبحت ميادين التظاهر ساحات حرب وقتل. وشهاداتهن تحمل فعلاً ما يفوق الوصف، فهي طالعة من قلب الجحيم والحصار، وليست صوراً أو مشاهد تتناقلها وسائل الإعلام. إنها عيون هؤلاء «الخفيات» تنقل تفاصيل المعارك والمجازر، مناظر الخراب والدمار والموت في شتى أشكاله… أما خريطتهن فتتوزع بين داريا والزبداني ودوما وحرستا والقابون وسواها من مدن دخلت ذاكرتنا المجروحة. إنهن النسوة المتألمات، شخصياً وجماعياً، الحالمات والخائبات، المتمردات على السلطة في تجلياتها كافة. وبعضهن لم يتوانين عن مواجهة حَمَلَة الرايات السود عندما اندسوا داخل التظاهرات.
وفي المقدمة التي حملت توقيع منظمة «استيقظت»، وهي المنظمة النسوية السورية التي تولت الإشراف على جمع الشهادات، يرد ما يشبه النعي لما تسميه المنظمة «اللحظة التاريخية»، لحظة الثورة كما عاشتها النساء، وتجاهر أنها أُجهضت، لكنها تؤكد أنّ من سلب النساء هذه اللحظة لم يكن الرجال والعادات والتقاليد بل «عنف النظام»، العنف الذكوري الذي أجهز على لحظة الحلم هذه. هل بالغت منظمة «استيقظت» في تشاؤمها حيال مصير الثورة؟ ربما. لكنها الثورة البريئة والنقية تنقلب حرباً أهلية وغير أهلية، ما دام النظام الدكتاتوري عدوُّ شعبه، العدوَّ الأقسى والأعنف.
لم أقرأ كتاب جولان حاجي قراءة نسوية، فالنسوة هنا وإن روين بصفتهن نسوة، إنما يروين بصفتهن الإنسانية أيضاً. والنسوة «الخفيات» هؤلاء، الراويات والمدونات، لسن سوى ضمير الجمع الذي يلتقي فيه كل السوريين، ثواراً ومحتجين. أما نوال، المناضلة الدمشقية المجهولة، التي تولت بنفسها جمع معظم الشهادات، فيمكن وصفها بـ «بطلة» الكتاب ولو لم يكن الكتاب رواية. شخصية بديعة حقاً، ناشطة جريئة وشجاعة، تواجه الحواجز العسكرية التي تجتازها، على رغم خوفها الدفين من السلطة الجائرة. تجازف دوماً، وتجهل أي حاجز سيوقفها وعمّا سيسألها، والخوف أن يضبط في حوزتها آلة التسجيل. الطرق إلى الغوطة أمامها خطرة وشبه مغلقة، وحركة التنقل غير متاحة بسهولة. وتروي كيف منعها مرة جندي بعثي وهي في سيارة السرفيس من إدخال كيس خبز، ومنع أيضاً رجلاً عجوزاً من إدخال الخضار. الشعب المحاصر يجب أن يموت جوعاً. وكانت كلما عبرت حاجزاً تأخذ في البكاء، وتروي كم تألمت عندما زارت الغوطة بعد قصفها بالكيماوي وكيف بكت كالمجنونة بعدما شاهدت ما يشبه يوم القيامة.
نوال هي فعلاً بطلة هذا الكتاب، خاطرت بنفسها لتجمع شهادات النسوة وحكاياتهن عن النضال والتظاهر والانكفاء، ومن ثم عن الخوف والهلع… لم تعلن اسمها ولم تطمح بشهرة ولا بمكافأة. نوال هذه ستظل بمثابة الجندي المجهول ولكن الحي في الثورة السورية.