واشنطن لم تبع الأكراد!
لا تسمح سياسة «إدارة التوازنات» التي تنتهجها واشنطن في الشرق الأوسط، وموافقتها على العملية العسكرية التركية شمال سورية، بالقول إنها باعت الأكراد لتظفر بالحليف التركي، الذي تشهد علاقته بالغرب فتوراً واضحاً ومتعمّداً منذ الانقلاب الفاشل منتصف تموز(يوليو) الماضي.
استثمرت أميركا الكثير في أكراد سورية وكانوا شركاء أساسيين في الحرب على «داعش» وأخرجوه من منبج، وأثبتوا كفاءة عالية كقوة محلية طموحة وفعّالة يمكن الاعتماد عليها. والأهم أنّ هذه القوة وفّرت الحضور العسكري الأميركي المباشر في شمال شرق سورية، حيث النفوذ والسيطرة الكردية على تلك المنطقة. وكان وجود مئات العسكريين الأميركيين والقوات الخاصة الأميركية لتقديم التدريب للأكراد، أشبه بقاعدة عسكرية أميركية في شمال سورية، ما مثّل رسالة ضغط قوية على تركيا، التي عرقلت غير مرة استخدام قاعدة إنجرليك الجوية في مهاجمة «داعش». لقد كان التعاون الكردي مع الأميركيين أساسياً في تجهيز مطار رميلان العسكري، حيث إنّ الحضور العسكري الروسي المباشر على الأراضي السورية، والوجود العسكري الإيراني بالطبع، استدعى الوجود العسكري الأميركي في سورية للحؤول دون استفراد روسيا بفرض الحل السياسي في هذا البلد.
ومع أنّ التحركّ العسكري التركي في جرابلس ضد «داعش» والمقاتلين الأكراد تمّ بتفاهم تركي- روسي مسبق قبل العملية، وبتوافق تركي- إيراني، فإنه في ظل «إدارة التوازنات» الأميركية حظي بقبول أميركي، إذ مع تمسّك واشنطن بالورقة الكردية وتمسكها بالشراكة مع «قوات سورية الديموقراطية»، فإن الولايات المتحدة أدركت أنّ الأكراد أخطأوا حينما تجاوزوا غرب الفرات، الأمر الذي مسّ حساسية تركية مفرطة، ومن هنا عدم عرقلة واشنطن مطالب أنقرة بعودة الأكراد إلى شرق الفرات. هذا يعني أنّ الولايات المتحدة لا تزال تدعم بقوة استمرار سيطرة الأكراد على المناطق الواصلة من القامشلي حتى شرق الفرات. ثمّ إنّ الاستدارات التركية الجديدة نحو موسكو وطهران ودمشق، ودخول أنقرة كلاعب مباشر على الأرض السورية، يعزز حاجة أميركا للأكراد، في ظل غياب شبه تام للجانب العربي، الذي ارتهن معظم حضوره الداعم للمعارضة السورية بمواقف ونهج أنقرة ما قبل الانقلاب الفاشل.
والواقع أنّ «إدارة التوازنات» لم تكن مجرد غض من جانب واشنطن عن العملية العسكرية التركية في جرابلس، بل رافقها دعم جوي أميركي اعتبرته أنقرة «مفيداً»، وقد أبلغ وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، نظيره التركي بأن الأكراد ينسحبون بالفعل نحو شرق الفرات. وقد كانت زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، قبل يوم من بدء العملية التركية «أشبه باعتذار أميركي» عن ملابسات موقف واشنطن من الانقلاب التركي الفاشل، ومؤشراً إلى أهمية تركيا بالنسبة لأميركا، من دون أنْ يعني ذلك بيعاً للشركاء الأكراد.
نهج «إدارة التوازنات» الأميركي سيستمر أيضاً في اليمن والعراق بأشكال وأدوات مختلفة، لأنّ الجامع والمشترك بين أزمات المنطقة أنّ معادلة «غالب-مغلوب» والحسم العسكري لمصلحة طرف على الطرف الآخر أثبتا صعوبتهما، فضلاً عن أنّ هذا النهج يعززه غياب أي إطار لتسوية شاملة واتفاق سياسي محكم، وذلك بسبب تناقض الأجندات الإقليمية والدولية، التي تجعل شروط وأسس التسوية المستدامة غائبة، في ظل عدم التوافق على النقاط الخلافية، بخاصة في سورية واليمن. ومن دون إرادة دولية حقيقية سيجد المتصارعون دوافع ومسوغات للقتال والقتل والاستنزاف، من دون اعتبارات للمسائل الإنسانية والأخلاقية، وقد كان الجدل بين المعارضة والنظام على كيفية إيصال المساعدات الإنسانية إلى حلب: عبر الكاستيلو (الواقع تحت سيطرة النظام) أم الراموسة (الخاضعة لسيطرة المعارضة)، دليلاً على الإرادة الدولية العليلة، وعدم رغبتها أو قدرتها على منع الأوكسيجين عن النيران المشتعلة في المنطقة، لأنّ سياسة «إدارة التوازنات»، بكل تعقيداتها وتناقضاتها وضعف مضمونها القيمي والإنساني، تقول إنّ على أهل المنطقة أنفسهم أنْ يعبّدوا الطريق لذلك… وليس القوى الخارجية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :