لا أستطيع التنفس

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

صيحة جورج فلويد “لا أستطيع التنفس” وصلت إلى العالم وغمرته من مغربه إلى مشرقه، صرخة رجل أمريكي من أصول إفريقية وهو يغادر الحياة ويموت تحت حقد العنصرية وعنجهيتها، صرخة تمجد الحياة وتطالب بحق الوجود، إنه يريد حصته من الهواء، ولكن أرجل الشرطة العنصرية منعت حقه في الاحتجاج، وخنقته حتى الموت.

طوال الأيام الماضية، تفرغت وسائل الإعلام بكل أشكالها لنقل الاحتجاجات ضد قتل جورج فلويد، ولم تنفع تغريدات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في منع الاحتجاجات ولا حتى في تخفيفها، ووقف اليمين المتطرف جامدًا أمام سيل الناس المحتجين وإرادتهم التي جعلت دولة بأهمية الولايات المتحدة تقطع أنفاسها بانتظار ما تسفر عنه هذه الاحتجاجات.

ورغم أن الرئيس ترامب يملك كثيرًا من الصلاحيات، فإن الأنظمة الدستورية تمنعه من التعسف في الرد وتضع حدًا لتصرفاته، حتى إن وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، رفض أمر ترامب بنشر الجيش من أجل وقف الاحتجاجات.

قبل تسع سنوات، احتج السوريون على اعتقال أطفال درعا، واحتجوا على مقتل الطفل حمزة الخطيب، واحتجوا على اعتقال المدنيين، واحتجوا على التعذيب، واحتجوا على عنجهية بشار الأسد وطاقمه المخابراتي، وصاح عشرات ألوف المعتقلين “لا نستطيع التنفس!” ولم يسمع أحد صيحاتهم، واستدعى بشار الأسد جيشه لاحتلال الشوارع السورية، وأمر طائراته بتدمير المدن بالبراميل المتفجرة، ولم يحتج كبار الضباط في الجيش، لم يحتج وزير الدفاع ولا رئيس الأركان ولا رؤساء الفرق والألوية، بل كانوا ينفذون الأوامر وهم يفتخرون بشعور الدونية الذي كرّسه نظام الأسد في نفوسهم وفي عقولهم وزرعه في شرفهم العسكري.

لقد صاح السوريون في المدن المدمرة وفي المخيمات وفي المهاجر، صاحوا جميعًا لا نستطيع التنفس، ولا نستطيع الحياة في ظل نظام الأسد، ولم يستجب إلا الإيرانيون وميليشياتهم الطائفية، وقاموا بصب الزيت على النار، وبعد أن يئس نظام الملالي و”حزب الله” من جدوى جرائمهم، استجاب الروس وأكملوا المقتلة السورية بطائراتهم وبصواريخهم وبدبلوماسيتهم المحترفة للقتل والتهجير واستخدام “الفيتو”، وتغطية استخدام الغازات الكيماوية ضد الأبرياء.

صاح رجل من الشمال السوري قرب خربة الجوز “أنا إنسان ماني حيوان!”، صاح محتجًا على إهانته والتنكيل به.

صاح رجل حلبي “بنت عمي تاج راسي!” محتجًا على محاولة اغتصاب زوجته.

صاح طفل “سأقول لله ما يفعلون بنا!”.

صاح الناس في كل أرجاء سوريا “ياللي بيقتل شعبه خاين!”.

صاح الأيتام وصاحت الأمهات والأرامل، لماذا قتلتم أحبتنا؟

صاح أصحاب البيوت وهم ينعون جنى عمرهم الذي بنوه بعرق جبينهم، وقد تحول كل شيء فيه إلى خراب تناثرت عليه بقايا الأثاث التي نجت من “التعفيش” الأسدي.

نحن لا نقلل من مقتل جورج فلويد ولا نعتبر أن حق الحياة قابل للتساهل، ولكننا نطالب بنصيبنا من الهواء والكرامة، فالسوريون لا يستطيعون العيش في سنوات الجوع القاتل، ولا يستطيعون دفع إيجار الشجرة التي يستظلون بها، ولا الغرفة التي تؤويهم، إنهم يبيعون كِلاهم وأجزاء من أكبادهم من أجل أن يُطعموا أطفالهم في تركيا وفي غيرها من المهاجر التي جرفتهم إليها قوات الأسد، وقوات إيران، وروسيا، وقوات التحالف، وقوات تنظيمات “بي كي كي”، وقوات “داعش”، وقوات “هيئة تحرير الشام”، وقوات الفلول المهزومة التي تحولت إلى النهب والسلب في الشمال السوري في سباق محموم لانتزاع ألقاب الكراهية.

نحن السوريين نشعر بالفرح بهذا الاحتجاج العالمي ضد مقتل حورج فلويد، ونشعر بالغرابة لرفض وزير الدفاع الأمريكي نشر الجيش ضد المحتجين رغم أوامر “السيد الرئيس” ترامب.

معتقلونا يعرفون ما قيمة الصرخات التي تنوس بهم بين الحياة والموت، ولا يزال الألوف منهم في أقبية النظام ينتظرون من يحتج من أجلهم في العالم، وهم ينتظرون ضوء الحرية في أقبية الأسد وفي أقبية التنظيمات الدينية الإرهابية، ويمزّق أهاليهم الانتظار والنوسان بين اليأس والامل.

أهالي المفقودين لا يزالون يناشدون المنظمات الدولية، ويسعون لدى كل الجهات من أجل البحث عن أحبتهم الذين لم يعد أحد يعترف بوجودهم، فالحواجز التي اعتقلتهم غيّرت أمكنتها، وأصحاب الفتاوى الإرهابية التي خطفتهم غيّروا مواقفهم، وحلقوا لحاهم، وتفرغوا لاستثمار أموالهم التي نهبوها دون أي شعور بالذنب!

يتحدث المتطرفون الإسلاميون بفرح عن قرب خراب أمريكا والغرب كله، ويبتسم المتطرفون الماركسيون بثقة وهم يشاركونهم حتمية انهيار الرأسمالية العالمية مع مقتل جورج فلويد، ويمسحون الصدأ عن نظرياتهم المعلّبة منذ مئة عام أو أكثر، ويستحضرون مقولات فلسفية منتزعة من سياقها لتتحول مثل فتاوى التطرف الإسلامي إلى رسائل للخراب والدمار.

وشبيحة نظام الأسد ينددون بالوحشية التي تتعامل بها الشرطة الأمريكية مع المحتجين! ويستغربون تصرفات ترامب المترددة، ويقارنونها بتصرفات بشار الأسد الذي تحالف العالم كله ضده “وبقي صامدًا” ومتمسكًا بمنصبه رغم خراب سوريا كلها.

مقتل جورج فلويد يعيد لنا الأمل بأن العالم لا يزال يحتج ضد الظلم، وقد يحتج غدًا معنا ضد التعذيب والقتل والتدمير في سوريا، ويعيد الأمل والحوار في وجه الحقد والطائفية التي ترزح تحتها بلادنا، وتزيح عن كاهل بلادنا العنصرية المتعددة الأشكال والألوان، عنصرية النسب، وعنصرية اللهجة، وعنصرية المذهب، وعنصرية التكفير.

لقد أعادت هذه الاحتجاجات لنا الأمل بانتصار ثورة الحرية والكرامة، وأحيت رفض العالم لبشاعة التمييز والحقد والقتل المجاني. فجورج فلويد الذي ارتفعت صورته فوق الخراب في مدينة إدلب وكأنه واحد منّا نحن المظلومين الذين دُمرت بيوتنا، وكأنه واحد من شهدائنا الذين قضوا بعيدًا عن كاميرات العالم في أقبية نظام الأسد، وفي معتقلات “داعش”، و”النصرة”، وتنظيمات “بي كي كي”.

وكما صاحت ابنة جورج فلويد بعد وفاته “أبي إنك غيّرت العالم!”.. كذلك غيّرت تضحيات شهدائنا سوريا، وستغيّر حتمًا العالم العربي المخنوق في أقفاص الاستبداد والغارق في مستنقع عبادة الفرد!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة